
في واقعة هزت الأوساط الأمنية والسياسية في النمسا، تمّ الكشف عن اختراق استخباراتي رفيع المستوى، حيث نجح تنظيم الإخوان المسلمين في زرع عميل مزدوج داخل أحد أكثر الأقسام حساسية في جهاز أمن الدولة النمساوي.
القضية، التي فجّرتها وسائل إعلام نمساوية مرموقة، لم تكشف فقط عن جسارة التنظيم وقدرته على التسلل إلى عمق المؤسسات السيادية، بل سلطت الضوء أيضاً على معركة طويلة ومعقدة تخوضها فيينا ضد شبكات “الإسلام السياسي” التي تتخذ من النمسا مركزاً استراتيجياً لأنشطتها في أوروبا.
إنّ فضيحة الجاسوس ليست مجرد حادثة فردية معزولة كما حاولت السلطات تصويرها، بل هي قمة جبل الجليد الذي يخفي تحته استراتيجية إخوانية ممنهجة وصبورة لاختراق مفاصل الدول الغربية.
بدأت القصة تتكشف عندما أعلنت وزارة الداخلية النمساوية عن تعليق عمل موظف مؤقت في مديرية أمن الدولة والاستخبارات (DSN) في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري. لم يكن هذا الموظف في أيّ قسم إداري عادي، بل كان يعمل في قسم مكافحة الإرهاب، وهو القسم المنوط به مواجهة التهديدات التي تشكلها جماعات مثل الإخوان المسلمين.
وفقاً للمعلومات التي نشرتها مجلة (بروفيل) السياسية، فإنّ هذا العميل المزدوج قام بتسريب معلومات بالغة الحساسية إلى قيادات في تنظيم الإخوان. لقد أبلغهم بأنّهم يخضعون للتحقيق والمراقبة من قبل المديرية، وفي بعض الحالات كشف لهم عن طبيعة وهوية التحقيقات الجارية. مثل هذا التسريب لا يمثل فقط خيانة للأمانة، بل هو عملية تخريب مباشرة لجهود مكافحة الإرهاب، حيث يمنح التنظيم فرصة لتغطية آثاره، وتغيير خططه، وتجنب الملاحقة.
عملية الكشف عن الجاسوس لم تكن وليدة المصادفة، فقد خضع للمراقبة الدقيقة لأسابيع من قبل زملائه في جهاز الاستخبارات نفسه. وعندما تم جمع أدلة دامغة ضده، بما في ذلك رصد اجتماعه مع أعضاء “المجموعة المعادية للدستور”، تم إيقافه فوراً عن العمل، وتفتيش منزله، وإبلاغ النيابة العامة في فيينا التي تنظر في توجيه تهمة رسمية له بـ “القيام بأنشطة استخباراتية تضر بالجمهورية النمساوية”.
ورغم خطورة الحادثة، سارعت مديرية DSN إلى التأكيد على أنّها “حالة فردية”، وأنّ آليات الرقابة الداخلية التي تم تحديثها بعد عام 2021 تعمل “بأفضل صورة ممكنة”. لكنّ المراقبين يرون أنّ نجاح التنظيم في الوصول إلى هذا العمق يكشف عن ثغرات خطيرة، ويؤكد أنّ شبكات الإخوان في النمسا أكثر خطورة وتنظيماً ممّا كان يُعتقد.
إنّ قضية الجاسوس ليست إلا وجهاً واحداً لاستراتيجية إخوانية أوسع وأكثر تعقيداً تهدف إلى التغلغل في المجتمع النمساوي وأوروبا بشكل عام. وتعتمد هذه الاستراتيجية على محاور عدة منها الالتفاف على القانون عبر الجمعيات، فقد كشفت مصادر أنّ عناصر الإخوان يتقنون فن استغلال النظام القانوني الأوروبي. وأنّهم يؤسسون جمعيات لأغراض تبدو نبيلة كالثقافة أو الفن أو التنمية، ويحرصون على أن يكون بعض أعضائها نمساويين. ولكن بعد الحصول على التراخيص، يتم تغيير أنشطة هذه الجمعيات بشكل سرّي لتصبح بؤراً لنشر الإيديولوجيا المتطرفة وتجنيد الأعضاء، بعيداً عن أيّ رقابة حكومية. وقد تم رصد انتقال عناصر إخوانية من ألمانيا إلى النمسا بعد أن تم إغلاق جمعياتهم هناك، ليقوموا بتكرار النموذج نفسه.
ومن المحاور أيضاً، وفق ما نقل موقع (إرم)، غسل أدمغة الأجيال الصاعدة، ويُعتبر هذا المحور الأخطر في استراتيجية الإخوان، لأنّه يركّز على الأطفال والشباب من أبناء الجاليات المسلمة. وعبر شبكة من “المساجد غير الرسمية” ومراكز التعليم في عطلات نهاية الأسبوع، يتم تقديم برامج تعليمية تهدف إلى “غسل الأدمغة”. ويتم تلقين الأطفال أفكاراً متشددة، وتنمية الكراهية، وزرع الولاء للتنظيم بدلاً من الولاء للدولة التي يعيشون فيها، وهو ما يخلق جيلاً جديداً معزولاً عن مجتمعه ومستعداً لخدمة أجندة التنظيم.
لم تقف النمسا مكتوفة الأيدي، فمنذ سنوات وهي تحاول مواجهة هذا المد. وقبل عامين شنت السلطات حملة اعتقالات ومصادرة أموال ضد التنظيم، لكنّ طبيعة النظام القضائي حالت دون اتخاذ إجراءات واسعة النطاق، ممّا سمح للتنظيم بإعادة ترتيب صفوفه.
الخطوة الأبرز كانت تأسيس “مركز توثيق الإسلام السياسي” (DPI) في عام 2020، وهو مؤسسة تهدف إلى دراسة وتوثيق الشبكات الإسلاموية بشكل علمي وتقديم المشورة للسلطات. لكنّ هذا المركز نفسه واجه تحديات كبيرة، فقد أثار مشروعه “خريطة الإسلام” جدلاً واسعاً واتهامات بانتهاك الخصوصية وتعميم التهمة على جميع المسلمين.
ويرى خبراء مثل الباحث التركي محمد علي ديمير في تصريح لـ (العين) أنّ المشكلة تكمن في القصور القانوني، فالقانون النمساوي الحالي ليس فعّالاً في وقف أنشطة الإخوان أو قطع مصادر تمويلهم. آليات الرقابة على الأموال التي تُجمع في المساجد أو على المناهج التي تُدرس في المراكز التعليمية شبه منعدمة، وهو ما يمنح التنظيم حرية حركة شبه كاملة.
في الختام، تكشف قضية الجاسوس أنّ المعركة ضد تنظيم الإخوان في أوروبا هي معركة طويلة الأمد. إنّها ليست مجرد مواجهة أمنية، بل هي صراع فكري وقانوني. فبينما تحاول النمسا الموازنة بين حماية أمنها القومي واحترام الحريات الدينية، يستغل التنظيم هذه المساحة ببراعة لتوسيع نفوذه وتجذير وجوده. وإن لم يتم تطوير استراتيجية أوروبية موحدة، قانونية ومالية وأمنية، لمواجهة هذه الحركة العابرة للحدود، فإنّ قضية جاسوس فيينا لن تكون الأخيرة.
محمد سبتي
