التمويل الإخواني في أمريكا: تفكيك البنية المالية للتنظيم عبر سجلات الضرائب

لا يمكن فهم جماعة الإخوان المسلمين خارج منطق التنظيم العابر للدول، ولا يمكن تفكيك هذا التنظيم دون التوقف عند بنيته المالية، التي شكّلت تاريخياً أحد أهم أدواته للتمدد والتمكين وإعادة إنتاج النفوذ. ففي السياق الأمريكي، حيث تتيح المنظومة القانونية مساحات واسعة للعمل غير الربحي، نجحت شبكات محسوبة على المشروع الإخواني في بناء حضور مؤسسي واسع، متكئة على الشرعية القانونية، وواجهة العمل المدني، وغياب التدقيق السياسي المباشر.

يهدف هذا التقرير إلى قراءة نقدية في سجلات الضرائب الأمريكية (IRSـ Form 990)، باعتبارها مدخلاً كاشفاً لطبيعة البنية المالية التي يعتمد عليها المشروع الإخواني في الولايات المتحدة، وحدود الشفافية التي يفرضها القانون، والفجوات التي تسمح بإدارة التمويل داخل منطقة رمادية بعيدة عن المساءلة المجتمعية.

يفرض القانون الأمريكي على المؤسسات غير الربحية المعفاة من الضرائب تقديم نموذج سنوي يُعرف بـ Form 990، يتضمن بيانات عن مصادر الدخل، وأوجه الإنفاق، والمنح المتبادلة، والرواتب. وعلى الورق يبدو هذا النموذج أداة شفافية متقدمة، غير أنّ القراءة المتأنية تكشف أنّ هذه الشفافية شكلية في جوهرها، إذ لا تُلزم المؤسسات بالكشف عن هوية جميع المتبرعين، ولا عن المصدر الأصلي للأموال في حال مرورها عبر وسطاء أو صناديق تمويلية.

هذا الإطار القانوني لا يُعدّ خللاً عرضياً، بل يوفر بيئة مثالية للتنظيمات الإيديولوجية، وعلى رأسها الإخوان، للتحرك بحرّية مالية كاملة داخل القانون، مع الحفاظ على غموض كافٍ يمنع تتبع شبكات التمويل الحقيقية.

تكشف مراجعة سجلات Form 990 لعدد من المؤسسات الإسلامية الأمريكية البارزة، مثل الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية (ISNA)، والجمعية الإسلامية الأمريكية (MAS)، ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR)، واتحاد الطلاب المسلمين (MSA)، عن حجم الحضور المالي والتنظيمي لهذه الكيانات.

ورغم اختلاف المسمّيات المعلنة بين العمل الدعوي والحقوقي والتعليمي، فإنّ هذه المؤسسات تشترك في كونها واجهات تنظيمية تلعب دوراً مركزياً في إعادة إنتاج الخطاب الإخواني داخل المجتمع الأمريكي، خصوصاً في أوساط الشباب والجامعات، مستفيدة من الغطاء القانوني الذي يقدّمه العمل غير الربحي.

تُظهر السجلات الضريبية أنّ التبرعات تشكّل المصدر الأساسي لتمويل هذه المؤسسات، وهو ما يبدو طبيعياً ظاهرياً. غير أنّ التدقيق يكشف عن نمط متكرر من التبرعات غير المفسّرة المصدر، سواء عبر مؤسسات وسيطة أو عبر صناديق تمويل لا تكشف عن هوية المتبرعين الفعليين.

هذا النمط لا يمكن فصله عن تاريخ الإخوان في بناء اقتصاد تنظيمي موازٍ، يعتمد على تعدد القنوات، وإخفاء المصدر، وتوزيع الأموال بطريقة تمنع الربط المباشر بين التمويل والقرار السياسي أو الإيديولوجي.

تُظهر نماذج Form 990 وجود منح مالية متبادلة بين مؤسسات غير ربحية محسوبة على المشروع الإخواني، تحت بند “Grants”. ورغم أنّ هذا السلوك قانوني، فإنّ تكراره داخل دائرة ضيقة من الكيانات المتقاربة فكرياً وتنظيمياً يشير إلى آلية داخلية لإعادة تدوير التمويل، بما يضمن بقاء الموارد داخل الشبكة نفسها.

هذه الممارسة تعكس منطق التنظيم المغلق، لا منطق العمل المدني المفتوح، حيث تتحول المنح من أداة دعم مجتمعي إلى وسيلة لضمان التماسك الداخلي للمشروع الإخواني.

تشير السجلات إلى أنّ جزءاً من دخل هذه المؤسسات يأتي من أنشطة مصنفة تحت بند “Program Services”، مثل المؤتمرات والدورات والفعاليات. غير أنّ الصياغة العامة لهذه البنود، وغياب التفاصيل الدقيقة حول طبيعة الأنشطة أو الجهات الممولة لها، يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول استخدام هذه الفعاليات كواجهات مالية لإدخال أموال يصعب تتبعها.

في السياق الإخواني لا تُعدّ الفعاليات مجرد نشاط دعوي، بل أدوات تعبئة وتنظيم وبناء شبكات ولاء، وهو ما يمنح هذا الغموض المالي بُعداً سياسياً يتجاوز الشكل القانوني.

تكشف نماذج Form 990 عن إنفاق متكرر على أنشطة خارج الولايات المتحدة، سواء عبر السفر، أو المؤتمرات الدولية، أو دعم برامج خارجية. ورغم أنّ الطابع الدولي لا يُعدّ بحد ذاته إدانة، فإنّ تكراره داخل مؤسسات محسوبة على تنظيم عالمي مثل الإخوان يعكس بوضوح الطبيعة العابرة للحدود للمشروع.

وغياب التفاصيل حول الجهات المستفيدة النهائية من هذا الإنفاق يجعل من الصعب تقييمه رقابياً، لكنّه يتسق مع استراتيجية الإخوان القائمة على ربط الأفرع المحلية بالمركز الإيديولوجي العالمي.

الصناديق الوسيطة: الغموض المقنن قانونياً

تُعدّ الصناديق الاستشارية للمانحين (Donor Advised Funds) إحدى أخطر ثغرات النظام غير الربحي الأمريكي، إذ تتيح إخفاء هوية المتبرع مع الحفاظ على المشروعية القانونية. واعتماد المؤسسات محل التحليل على هذا النوع من التمويل يعزز منطق التمويه المالي، ويجعل من تتبع مصادر الدعم الإخواني المحتمل مهمة شبه مستحيلة. هنا لا يكمن الخطر في خرق القانون، بل في استغلاله، وهو جوهر الاستراتيجية الإخوانية منذ تأسيس الجماعة.

لا تقدّم سجلات Form 990 دليلاً قاطعاً على وجود قيادة مالية مركزية معلنة للتنظيم الدولي داخل الولايات المتحدة، لكنّها تكشف عن نمط متكرر من التشابك المؤسسي، والغموض المالي، وإعادة تدوير الموارد داخل شبكة مغلقة.

هذه المؤشرات لا ترقى إلى الإدانة القضائية، لكنّها كافية لتفكيك خطاب “العمل المدني البريء”، وتؤكد أنّ ما يجري هو إدارة إيديولوجية ذكية للمال داخل أطر قانونية.

في المحصلة، لا تكشف الوثائق الضريبية عن تنظيم يعمل في الخفاء خارج القانون، بل عن تنظيم أخطر؛ تنظيم يتحرك بالكامل داخله، ويحوّل العمل غير الربحي إلى أداة تمكين سياسي وإيديولوجي.

هكذا يشتغل المشروع الإخواني في الولايات المتحدة؛ لا بالصدام، بل بالتغلغل؛ لا بالمواجهة، بل بإدارة الموارد والشرعية. وهنا تحديداً تكمن الإشكالية، ليس في النصوص القانونية، بل في كيفية توظيفها لخدمة مشروع لا يؤمن أصلاً بالدولة الوطنية ولا بالمجال العام المفتوح.

الحفريات: رشا عمار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *