
تواجه منطقة الساحل والصحراء موجة تصاعدية من نشاط الجماعات المتطرفة، في ظل بيئة اجتماعية واقتصادية شديدة الهشاشة، وغياب منظومة تنظيمية قادرة على ضبط حركة الاتصالات العابرة للحدود. ويكشف رصد حديث للتقارير الأممية والإقليمية الصادرة في عام 2025 أنّ الجماعات المسلحة أصبحت أكثر قدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة، خصوصاً الإنترنت الفضائي عبر ستارلينك في التجنيد وإدارة شبكات التمويل والعمليات، مستفيدة من الفراغ الأمني وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، إلى جانب ضعف قدرة المؤسسات الحكومية على فرض رقابة فعالة.
تشير بيانات منظمة العمل الدولية (نيسان ـ أبريل 2025) إلى أنّ بطالة الشباب في مالي والنيجر وبوركينا فاسو بلغت 29.4%، ولا يحصل نحو 63% من الفئة العمرية (15ـ 24) عاماً على تعليم رسمي بعد المرحلة الابتدائية. هذه المؤشرات تعكس عجزاً واسعاً في دمج الشباب داخل الاقتصاد المحلي، وهو ما يفتح الباب لاستقطابهم عبر عروض مالية مباشرة تقدمها الجماعات الإرهابية.
وتوضح تقارير اليونسكو (آذار ـ مارس 2025) أنّ الدعاية الرقمية باتت الأداة الأكثر تأثيراً في عمليات الاستقطاب، إذ تبين أنّ 78% من مواد الفيديو التي استخدمها تنظيم “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” خلال عام 2024 تم بثها في مناطق ريفية تعتمد بشكل شبه كامل على اتصالات ستارلينك. وقد وصل هذا المحتوى إلى ما يقرب من (1.3) مليون مشاهد، وهو رقم يعكس قدرة التنظيم على تجاوز غياب البنية التحتية الأرضية للاتصالات.
ويُظهر تقرير صادر عن الاتحاد الأفريقي (شباط ـ فبراير 2025) أنّ 59% من المجندين الجدد في منطقة تيلابيري بالنيجر ذكروا أنّ المحتوى الرقمي هو العامل الأول الذي دفعهم إلى الالتحاق بالجماعات المتطرفة، وأنّ معظم هذا المحتوى وصلهم عبر الإنترنت الفضائي بسبب غياب تغطية شبكات الهاتف المحمول التي لا تتجاوز 12% من المناطق النائية وفق تقرير GSMA لعام 2025.
وتعتمد الجماعات المسلحة في دعاية التجنيد على توظيف الظروف الاقتصادية المتدهورة، بما في ذلك تراجع المحاصيل بنسبة 47% نتيجة موجات الجفاف في منطقة الساحل، كما ورد في تقييم الأمن الغذائي لعام 2025 الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة. وتستغل التنظيمات هذا التراجع لطرح عروض مالية مباشرة للشباب، تصل إلى ((120 ألف فرنك أفريقي (نحو 183 يورو) شهرياً وفق دراسة ميدانية لمعهد الدراسات الأمنية (كانون الثاني ـ يناير 2025). وبالنسبة إلى من يعيشون في قرى يقلّ متوسط الدخل الشهري فيها عن (40) ألف فرنك أفريقي، تصبح هذه العروض بديلاً اقتصادياً جذاباً.
وتُظهر تقارير هيئة الأمم المتحدة للمرأة (آذار ـ مارس 2025) أنّ النساء أصبحن هدفاً متزايداً للدعاية الإلكترونية، وأنّ 34% من النساء المجندات في بوركينا فاسو خلال 2024 تم استقطابهن عبر شبكات اتصال رقمية، وأنّ 71% من هذه العمليات تمّت عبر أجهزة تعمل بخدمة ستارلينك. ويستند المحتوى الموجّه لهن إلى رسائل تركّز على التمكين الاقتصادي وخلق فرص دخل بديلة، في سياق مجتمعات تعاني فيها النساء من محدودية النفاذ للتعليم والعمل.
وتقدّر البيانات أنّ نحو (92) ألف امرأة في مناطق الساحل تعرّضن لمحتوى تجنيدي إلكتروني خلال عام 2024، وأنّ حملات الاستقطاب استهدفت بالأساس الأسر التي يقلّ متوسط دخلها عن (61) يورو شهرياً، معتمدة على وعود بدمجهن في شبكات دعم مالي أو أنشطة اقتصادية تدار عبر التنظيمات المسلحة.
تزداد صعوبة مواجهة الاستخدام غير القانوني للاتصالات الفضائية بسبب ضعف الأطر التنظيمية العابرة للحدود. فوفق تقرير مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس) حول التكامل الإقليمي (نيسان ـ أبريل 2025)، تعمل 27% فقط من بروتوكولات الأمن السيبراني المشتركة بين الدول الأعضاء، بينما تظل 73% من البيانات العابرة للحدود دون أيّ تنظيم فعلي. ويتيح هذا الوضع للشبكات الإجرامية نقل المعدات وتبادل المعلومات وتنظيم التمويل دون عوائق كافية.
التقرير ذاته يوضح أنّ 64% من أجهزة ستارلينك غير القانونية المستخدمة داخل مالي وصلت عبر شبكات تهريب تعمل في الجزائر، وفق بيانات مكتب الأمم المتحدة لغرب أفريقيا والساحل (UNOWAS) في تقرير (آذار ـ مارس 2025).
وتعاني المؤسسات القضائية في المنطقة من ضعف القدرة على التعامل مع الجرائم السيبرانية. فمؤشر حكم القانون للاتحاد الأفريقي (آذار ـ مارس 2025) يُظهر أنّ النيجر لا تعالج سوى 22% من قضايا الجرائم الإلكترونية، بينما تُرفض 78% من القضايا المتعلقة بالإنترنت الفضائي بسبب نقص الأدلة والتقنيات اللازمة للتحقيق. وفي مالي يشير التقرير السنوي لوزارة العدل (2025) إلى أنّ 91% من قضايا تهريب أجهزة ستارلينك فشلت بسبب غياب أدوات جنائية لتحديد مصدر الأجهزة.
وأفاد تقييم الحوكمة الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (نيسان ـ أبريل 2025) بأنّ 83% من وكالات إنفاذ القانون في منطقة الساحل لا تمتلك أنظمة تتبع للأقمار الصناعية في الوقت الحقيقي، ممّا أدى إلى ارتفاع الاتصالات غير القانونية بنسبة 49% في 2024 وفق المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة (أيار ـ مايو 2025).
من أكبر التحديات المرتبطة باستخدام الإنترنت الفضائي دوره في تسهيل عمليات التمويل غير القانوني. فقد قدّرت مجموعة العمل المالي (FATF) في تقرير (آذارـ مارس 2025) أنّ 77% من مدفوعات اشتراكات ستارلينك المستخدمة من قبل الجماعات الإجرامية تتم عبر منصات العملات المشفرة، بما في ذلك بيتكوين وإيثريوم التي تمثل وحدها 62% من المعاملات.
وبسبب غياب تنظيم فعّال، إذ إنّ 89% من ولايات الساحل لا تمتلك قوانين واضحة لتنظيم العملات المشفرة وفق مراجعة البنك الأفريقي للتنمية (نيسان ـ أبريل 2025)، تمكنت الشبكات الإجرامية من غسيل ما يقرب من (540) مليون دولار سنوياً عبر أنشطة مرتبطة بخدمة ستارلينك. وتُشير تقارير مجموعة العمل الحكومية المشتركة لمكافحة غسل الأموال في غرب أفريقيا (2025) إلى أنّ التزام دول إيكواس بمعايير مكافحة التمويل غير القانوني لا يتجاوز 31%.
ولا تقتصر الآثار الاستراتيجية لانتشار الإنترنت الفضائي غير المنظم على تسهيل الاتصال والتجنيد فحسب، بل تمتد لتؤثر في طبيعة النزاعات نفسها. إذ توقّع المنتدى الاقتصادي العالمي (نيسان ـ أبريل 2025) أن يزداد تمويل الجماعات المتطرفة عبر الإنترنت بنسبة 14% سنوياً، ليصل إلى ((450 مليون دولار بحلول 2027، مستنداً إلى أنّ انتشار الهواتف المحمولة بلغ 92% وفق تقرير GSMA لعام 2025.
وتُحذّر مجموعة الأزمات الدولية (نيسان ـ أبريل 2025) من احتمال تحوّل أكثر من 68% من المجتمعات الريفية في الساحل إلى بؤر رئيسية للتجنيد، تحديداً في المناطق التي تحصل على اتصال مستقر بالإنترنت الفضائي، الذي يعجز الأمن المحلي عن مراقبته.
رغم حجم التحديات، تواصل المنظمات الإقليمية والدولية التي تعمل في المنطقة وضع مبادرات متعددة لرفع القدرات. فقد اقترحت استراتيجية الأمن السيبراني للاتحاد الأفريقي (أيار ـ مايو 2025) برنامجاً تدريبياً بقيمة ((32 مليون دولار لإعداد (2500) محقق في الجرائم السيبرانية بحلول 2028، إلا أنّ 18% فقط من تمويل البرنامج تم تأمينه حتى الآن وفق تقرير البنك الأفريقي للتنمية (2025).
وقد دعا مجلس الأمن الدولي (نيسان ـ أبريل 2025) إلى نشر ((15 جهازاً لتحليل الطيف الترددي لتعقب الاتصالات الفضائية، لكنّ أربعة أجهزة فقط تعمل فعلياً بحسب تحديث الاتحاد الدولي للاتصالات (أيار ـ مايو 2025).
وفي المقابل، يمكن للشراكات بين القطاعين العام والخاص، على غرار مبادرة IRIS للأقمار الصناعية في الاتحاد الأوروبي، أن تخفف الاعتماد على ستارلينك بنسبة تصل إلى 29% بحلول 2030 وفق استراتيجية وكالة الفضاء الأوروبية (آذار ـ مارس 2025)، إلا أنّ هذه المبادرة تحتاج إلى استثمارات أولية تتجاوز 1.8)) مليار دولار، لم يتوفر منها سوى 22% وفق تقارير البنك الدولي (2025).
وتؤكد التقارير الاقتصادية أنّ معالجة جذور الأزمة شرط أساسي لخفض نشاط الجماعات المتطرفة. فقد أوصى صندوق النقد الدولي (نيسان ـ أبريل 2025) بتنفيذ برنامج توظيف للشباب بقيمة (3.2) مليارات دولار لتوفير (1.1) مليون وظيفة بحلول 2029، لكنّ 24% فقط من التمويل تم تخصيصه حتى الآن.
وتُظهر تجارب محلية نجاح بعض التدخلات، مثل برامج محو الأمية الرقمية في منطقة مايو-كبي في تشاد، التي أدت إلى خفض عمليات التجنيد بنسبة 16% خلال عام 2024 وفق تقرير اليونسكو (أيار ـ مايو 2025). إلا أنّ توسيع هذه البرامج يتطلب ميزانية تبلغ (420) مليون دولار، لم يتم توفير سوى 19% منها حتى الآن حسب تقييم البنك الدولي (2025).
وتكشف البيانات المتعددة أنّ الجماعات المتطرفة في الساحل أصبحت جزءاً من منظومة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة بقدر اعتمادها على الظروف الاجتماعية. ويمثل الإنترنت الفضائي، في ظل غياب التنظيم، أحد أهم الأدوات التي تسمح لها بتحويل المناطق المعزولة إلى ساحات مفتوحة للدعاية والتجنيد والتمويل. وتبرز الحاجة الملحّة إلى استراتيجيات عابرة للحدود تقوّي من قدرات الدول على التنظيم والمراقبة، بالتوازي مع برامج اقتصادية واجتماعية تمنح السكان المحليين بدائل حقيقية بعيداً عن الإغراءات التي تقدّمها الشبكات المسلحة.
