
في ظاهرة ليست جديدة ولا مباغتة، شنّ عدد من المحسوبين على القوى الأصولية في اليمن، ومنهم عبد الله العديني وهو رجل دين متشدد وبرلماني يمني عن حزب الإصلاح (فرع الإخوان باليمن)، شنّوا هجوماً عنيفاً بلغ حدّ “التكفير” والتحريض على العنف المادي والرمزي ضد الإعلامية اليمنية “عهد ياسين”. هذه الاتهامات، وفق مراقبين، تعكس تحقير المرأة في ذهنية هذه التيارات الأصولية، خصوصاً مع تبنّي مواقف سياسية أو شخصية تتعارض مع قيمهم ومصالحهم الفئوية وعقولهم الماضوية.
حملات التحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي بحق عهد ياسين على خلفية ما اعتبره العديني وآخرون بمثابة تجاوز للمعايير والتقاليد الاجتماعية في ما يخصّ ملابس الإعلامية اليمنية، تؤشر إلى ذهنية طائفية تستثمر في وضع مأزوم سياسياً، وتبحث عن إطالة أمد الأزمة في اليمن من خلال وضع المجتمع على حافة سجالات دائرية تنتهي إلى لا شيء.
وفي خطبة الجمعة الماضية، عمد البرلماني الإخواني المعروف بمواقفه وآرائه المتشددة، عبد الله العديني، في جامع النور وسط مدينة تعز، إلى التشهير والتشنيع على الإعلامية عهد ياسين، في إشارة متكررة إلى كونها نموذجاً لـ “تبرّج النساء”، ودعا عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق محمد عبد الله صالح إلى إيقاف “العبث” في القناة، على حدّ توصيفه.
ونشر العديني عبر حسابه الرسمي في موقع (فيسبوك) أنّ الإعلامية عهد ياسين تتعمد “استفزاز المجتمع اليمني وتحاول طمس الهوية الإسلامية”. وأضاف: “رأيت مشهداً صادماً فعلاً، امرأة كاشفة الرأس والساقين والذراعين…، وهذا المنظر يُغضب الله، ولا يرضاه الإسلام، ولا يقبل به الشعب اليمني المحافظ”، وكتب عبر منشور آخر: “مذيعة قناة الجمهورية، أقسم بالله إنّ المخطط كبير جداً لتجريد اليمن من الهوية اليمنية.”
من جهتها، أدانت نقابة الصحفيين اليمنيين “حملة التحريض والتشويه” التي طالت الإعلامية اليمنية، والتي طالبت بـ “محاكمتها وإيقافها”، إلا أنّ العديني عقّب على بيان نقابة الصحفيين قائلاً: “حاسبوا الإعلامية والقناة، لا محاسبتي”.
وقد رفضت النقابة موقف البرلماني المنتمي إلى الجماعة الأم للإسلام السياسي، واعتبرت خطابه الأصولي “يمثل تحريضاً على الكراهية، واستهدافاً مباشراً للعاملين في المجال الإعلامي”. وعدّه ناشطون سلوكاً عفا عليه الزمن، ومحاولة لمواصلة الوصاية الاجتماعية على الناس، ولا سيّما النساء.
إلى ذلك، قالت عهد ياسين إنّها “لن تعتذر، ولن تبرّر” في ظل “الحملة المنظمة” التي تطالها من “بعض رجال الدين المتشددين وعدد من أعضاء مجلس النواب” مؤكدة أنّ خياراتها الشخصية “ليست ملكاً لأحد، ولا تخضع لوصاية دينية أو سياسية”.
وأوضحت ياسين في حسابها على منصة (إكس) أنّ الخطاب العدائي ضدها هو “إقصائي ومتطرف”، ويهدف إلى “مصادرة الحريات”، وقالت إنّها لا تصطدم مع المجتمع اليمني وتفاليده، وإنّما “في مواجهة مع التطرف، ومع من يظنون أنّ الطريق إلى السلطة يمرّ عبر إذلال المرأة”.
وأضافت ياسين أنّها ستواصل أداء عملها “بما يمليه الضمير المهني”، وأنّ مظهرها لن يتحول إلى “معركة سياسية أو دينية”، معربة عن تقديرها لـ “التضامن الواسع من اليمنيات واليمنيين”، وامتنانها لدعم قيادة وزملاء قناة (الجمهورية).
وفي حديثها لـ (حفريات) توضح الأكاديمية اليمنية إلهام مانع أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تتعرّض فيها قيادية أو إعلامية يمنية للهجوم “بسبب ما ترتديه أو بسبب نشاطها الإعلامي، المدني أو الحقوقي. فهناك حملات منهجية متكررة، تقودها قيادات دينية من رموز الإسلام السياسي، تستخدم الدين غطاءً للهجوم على المرأة ودورها في المجتمع.”
فالحرب والصراع الدائر، كان لهما تأثير اجتماعي واقتصادي على واقع المرأة، وأصبحت العديد من “النساء مسؤولات عن إدارة شؤون المنزل ورعاية الأطفال بمفردها، وأظهرت الدراسات أنّ النساء في اليمن يلعبن دوراً مهمّاً في الحفاظ على تماسك المجتمع وتعزيز السلام على المستوى المحلي. إضافة إلى الكثير من الأدوار الاجتماعية، والتقليدية، ودفع المرأة في أدوار مجتمعية فاعلة واضحة. ومع تزايد نشاط المرأة ودورها، تزايدت أيضاً الحملات المنهجية الرافضة لها، وهنا تلعب قيادات دينية من رموز الإسلام السياسي، كما في هذه القضية، دوراً كبيراً.”
وفي مقال للأكاديمية اليمنية بعنوان: “فستان، وعمامة، وبينهما برزخ”، تشير إلى أنّ المسألة أعمق وأبعد من “هوسٍ جنسيّ”ٍ لشيخ يعيش بعقله في القرون الوسطى، موضحة أنّ هناك مشكلةً جوهريةً في رؤيته الإسلامية السياسية، وفي قراءته الدينية للمرأة. وتردف: “المرأة تظلّ الجوهر في رؤية الإسلام السياسي للمجتمع، وهو يسعى لخلق نظام مجتمعي قائم على الهرمية: هرم يقف على رأسه الرجل، ويقوم على مفهوم السمع والطاعة. والمرأة، في هذه الرؤية الإيديولوجية، تمثل المفتاح للسيطرة على هذا المجتمع، تماماً كما تمثل المدخل لانهيار هذا الهرم الكهنوتي.
ومن ثمّ يعتبر حريتها مصدراً للفوضى، ولذا يجب تقييدها، ويجب تكميمها، وتكفينها، وحبّذا لو غابت في شرنقة، وتلاشت من الوجود كفقاعة، حتى يرتاح من وجودها. هي بالمحصلة رؤية كهنوتية، تقوم على مفاهيم القهر والخوف والكراهية، ولا تؤمن بالإنسان، وبالخير الذي فيه، أي الإنسان، الحر، المتعدد، مصدر الخير والمحبة لنفسه ولغيره.”
من جهته، يقول المفكر اليمني قاسم المحبشي لـ (حفريات): إنّ الحملة بحق الإعلامية اليمنية تكشف عن مفهوم المرأة ووضعها التحقيري في نظر القوى الإسلاموية، فهي بالنسبة إليهم “كائن ناقص وتابع”، في حين أنّها تملك “جسداً وعقلاً وإرادة، مثلها مثل الرجل”، و”أيّ محاولة لإعادتها إلى مرتبة “الجارية”، و”عصر الحريم”، أو “مُلك اليمين”، هي محاولة ضد التاريخ، ولا تكشف “سوى بقايا وعي قروسطي يتخفى في الدين. فالعنف ضد المرأة ليس حادثاً عابراً، بل بنية تاريخية وثقافية تشكّلت عبر قرون من الوصاية والخوف، ورسختها مؤسسات تُوظف المقدّس لخدمة الدنيوي”.
وحين تغيب الدولة، وتضعف مؤسسات القانون، يتكاثر “الحراس”، وفق ما يشير المحبشي، ويصبح هناك “حرّاس للأجساد والعقول والملابس والكلام، لكن بلا حارس واحد لكرامة الإنسان وحقوقه. فالنظام لا يُبنى بالوعظ، بل بالقانون. وكلّ خطاب يطالب بفضيلة بلا دولة هو خطاب يُخفي نزعة قمع.”
في هذا السياق جاء التحريض الذي طال الإعلامية العدنية عهد ياسين، حين هاجمها بعض النواب المحسوبين على جماعة الإخوان الإرهابية، ومنهم عبد الله العديني ومحمد الحزمي، بخطاب ديني متشنّج يصادر حق المرأة في الظهور بالمجال العام، ويحشد الرأي العام ضدها بوصفها “تهديداً للهوية”، كما يقول المحبشي.
لكنّ الأخطر أنّ هذا التحريض جرى في “مجتمع هشّ”، حيث يمكن لتحريض كهذا، له صفة دينية وحمولة تكفيرية وتعبوية أن يرقى إلى جريمة مدوية ودموية، الأمر الذي برز، وفق المحبشي، عبر “المنصات الرقمية وانتشار تهديدات بالعنف والقتل عقب حملة التضامن مع عهد ياسين.”
