
أثار سقوط الأمير أندرو من عرشه الملكي عاصفة سياسية وإعلامية في بريطانيا، بعدما قرر الملك تشارلز الثالث تجريده من جميع ألقابه، وكشف هذا القرار النادر في تاريخ العائلة المالكة عن تحوّل غير مسبوق في نهج الملك، الذي سعى لإرساء مبدأ المساءلة داخل مؤسسة طالما وُصفت بأنها فوق القانون، وفق وكالة أنباء “رويترز”، الجمعة 31 أكتوبر 2025.
لم يكن القرار مجرد إجراء رمزي، بل نقطة تحوّل في العلاقة بين الملك تشارلز الثالث ومؤسسة الحكم البريطانية، إذ اتخذ خطوة جريئة في مواجهة فضيحة ظلت تلاحق العائلة منذ سنوات، مرتبطة باتهامات سوء سلوك جنسي ضد شقيقه الأمير أندرو وعلاقته بالملياردير الراحل جيفري إبستين، ما جعل بريطانيا بأكملها تترقب تداعيات القرار.
قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، الجمعة 31 أكتوبر 2025، إن قرار الملك تجريد أندرو من لقبه كأمير وتحويله إلى “أندرو ماونتباتن وندسور” يمثل لحظة فارقة في تاريخ النظام الملكي، فقد كسر تشارلز أحد أقدس المحظورات الملكية، وهي محاسبة فرد من العائلة علنًا على سلوك شخصي، في قضية ذات أبعاد قانونية وأخلاقية معقدة.
وأكد القصر الملكي، في بيان رسمي، أن القرار جاء رغم إنكار أندرو للاتهامات، مشيرًا إلى أن “الانتقادات ضرورية، حتى وإن ظلّ ينفي التهم الموجهة إليه”، وأضاف البيان أن الملك وزوجته الملكة كاميلا “يُعربان عن تعاطفهما مع ضحايا جميع أشكال الإساءة”، في رسالة واضحة تعكس دعم القصر لضحايا الاعتداءات الجنسية.
أوضحت الصحيفة أن ولي العهد الأمير ويليام دعم والده في القرار، ما أعطى الخطوة بعدًا مؤسسيًّا يعكس توافق العائلة حول ضرورة حفظ سمعة التاج البريطاني، ووفق مسؤولين في القصر، فإن كاميلا، المعروفة بدعمها للجمعيات الخيرية الخاصة بضحايا الاغتصاب، كانت من أبرز المؤيدين لهذا الإجراء الحازم.
ورغم هذه المساندة، يشير مراقبون إلى أن القرار كان صعبًا على المستوى الشخصي، إذ ظل أندرو لسنوات أحد أقرب أفراد العائلة إلى والدته الراحلة الملكة إليزابيث الثانية. أما اليوم، فيبدو أن تشارلز يضع المصلحة المؤسسية فوق العاطفة العائلية.
أوضحت الصحيفة الأمريكية أن تشارلز استخدم “الوصايا الملكية” لإصدار توجيه رسمي إلى اللورد المستشار ديفيد لامي، يطلب منه شطب جميع ألقاب أندرو، دوق يورك والأمير وصاحب السمو الملكي، من قائمة النبلاء البريطانية، وسمحت هذه الخطوة بتجنب مواجهة مع البرلمان، الذي طالب بعض أعضائه بمعاقبة أندرو بعد صدور مذكرات فيرجينيا جيوفري التي اتهمته بالاعتداء.
نُشرت صورةٌ على نطاقٍ واسع تُظهر أندرو، الذي كان لا يزال أميرًا آنذاك، وفيرجينيا جيوفري
ورغم أن أندرو أنكر مرارًا تلك الاتهامات، فإن الرأي العام لم يغفر له، خاصة بعد المقابلة الكارثية التي أجراها عام 2019 مع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، ومنذ ذلك الحين، تدهورت مكانته داخل العائلة، إلى أن حُسم مصيره بقرار الملك هذا الأسبوع.
قال المراسل الملكي السابق لإذاعة “بي بي سي”، بيتر هانت، إن ما حدث يمثل “توسّعًا غير عادي في السلطة الملكية”، موضحًا أن الملك أراد حسم الجدل قبل أن يتورط البرلمان، وأضاف أن القرار “جعل النواب خارج المعادلة، وأعاد للتاج قدرته على ضبط شؤونه الداخلية دون تدخل”.
من جانبها، أعربت وزيرة التجارة كريس براينت عن رضاها قائلة: “لطالما شعرت أن هذه خطوة ضرورية، وأنا سعيدة بحدوثها الآن”، بينما أكدت زعيمة حزب المحافظين كيمي بادينوخ أن “الجمهور البريطاني لن يتسامح مطلقًا مع أي نوع من الجرائم الجنسية، وخاصة تلك التي تستهدف القاصرين”.
لم يقتصر الدعم على الحكومة، إذ أعلن زعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين إد ديفي على وسائل التواصل الاجتماعي أن “منصب أندرو أصبح غير قابل للاستمرار، بعد أن أحرج البلاد وأساء إلى مكانته”. وأضاف أن القرار “خطوة ضرورية لإعادة الثقة بمؤسسات الدولة ووضع حد لهذه القضية المؤسفة”.
ورغم هذا التوافق السياسي النادر، فإن كثيرين داخل القصر شعروا بوطأة الموقف الإنساني، خصوصًا أن العقوبات لم تتوقف عند الألقاب بل امتدت إلى حياة أندرو الخاصة وممتلكاته. ذكرت “نيويورك تايمز” أن الملك تشارلز قرر أيضًا سحب إقامة أندرو في “المحفل الملكي”، وهو منزل خارج لندن كان يقيم فيه مقابل إيجار رمزي يُقدّر بـ”حبة فلفل واحدة سنويًا”، وبعد مفاوضات مطوّلة، وافق أندرو على مغادرة المنزل مقابل تعويض عن المبالغ التي أنفقها في تجديده، والتي بلغت نحو 8 ملايين جنيه إسترليني.
وسينتقل الأمير السابق إلى منزل أصغر في “ساندرينجهام”، بينما ستبقى طليقته سارة فيرجسون، التي انفصل عنها عام 1996، خارج هذا الترتيب الجديد، وفي المقابل، ستحتفظ ابنتاه الأميرة بياتريس ويوجيني بلقبيهما الملكيين، في إشارة إلى أن العقوبات لم تمتد إلى الجيل الجديد.
أوضح المحللون أن هذه الدراما الملكية لها تأثير نفسي عميق على العائلة، فقد أشار مسؤولون في القصر إلى أن الملك تشارلز كان مترددًا في البداية بسبب مشاعره تجاه أخيه وبناته، وقال بيتر هانت: “لقد ترك سلوك أندرو الكارثي ندوبًا على عهدين؛ عهد والدته الملكة وعهده الحالي”.
ولكن الملك، كما أضاف مراقبو العائلة المالكة، اختار المضي قدمًا حفاظًا على كرامة المؤسسة. فالملك، الذي يواصل علاجه من السرطان، أدرك أن حماية صورة التاج تتطلب إجراءات صارمة حتى ضد أقرب الناس إليه.
لم يكن سقوط الأمير أندرو مجرد فضيحة عائلية، بل حدث يعيد تعريف التوازن بين “القداسة الرمزية” للتاج و”الشفافية الأخلاقية” المطلوبة في القرن الحادي والعشرين، وبقراره هذا، أثبت الملك تشارلز الثالث أنه مستعد لتجاوز التقاليد حين يقتضي الواجب الدفاع عن القيم التي يُفترض أن يجسدها التاج.
وفي الوقت الذي يواجه فيه الملك تحديات صحية وشعبية، قد يتحوّل هذا القرار إلى علامة على بداية عهد جديد من المساءلة الملكية، حيث لم يعد أحد فوق القانون، حتى لو كان أميرًا من أبناء الملكة.
