
تعيش كندا حاليًّا إحدى أكثر الأزمات الاقتصادية حرجًا وحساسيّة في تاريخها، إذ بدأ الاقتصاد الكندي يعاني من التداعيات القاسية للرسوم الجمركية التي فرضتها عليه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسط انكفاء كندي رسمي عن اتخاذ خطوات جمركية انتقامية مقابلة؛ ما يعدّه مراقبون عجزًا كنديًّا عن مسايرة الضغوطات المالية المسلطة عليها من واشنطن.
ورغم وجود اتفاق اقتصادي أمريكي كندي ثنائيّ يعفي الكثير من البضائع والسلع من الرسوم الجمركية، فإنّ المواد والمنتوجات التي تقع خارج هذا الاتفاق المعروف بـusmca كثيرة أيضًا.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، اتخذت إدارة ترامب خطوات تصعيدية – وُصفت كنديًّا بالانتقامية- ضدّ السلع والمنتوجات الكندية، بعدما فرضت عليها رسومًا جمركية عالية، إذ إنّها سلطت في الـ1 من أغسطس رسومًا بـ35 في المئة على معظم السلع الواردة من كندا، بعد أن كانت في حدود 25 في المئة في 2024.
كما فرضت رسومًا بـ10 في المئة على منتجات الطاقة والبوتاس التي لا تستوفي معايير الاتفاق الثنائي، ورسومًا ثالثة بـ50 في المئة على واردات الصلب والألمنيوم، ورابعة بـ40 في المئة على البضائع المعاد شحنها أي السلع التي يثبت تهريبها لتجنب الرسوم الجمركية.
وعجزت حكومة مارك كارني – التي خلفت حكومة جاستن ترودو في مارس الماضي- عن مسايرة وتيرة العقوبات الجمركية الأمريكية التي اتخذت طابعًا تصعيديًّا وكانت بمنزلة إعلان حرب اقتصادية عليها، وفق توصيف المتابعين والمراقبين.
فبمجرد أن اتخذت كندا عقوبات جمركية مماثلة في المرحلة الأولى من فرض الرسوم، مسلطة نسبة 25 في المئة على مواد الصلب والألمنيوم من أمريكا، حتى رفعت الأخيرة نسبة الرسوم وأوصلتها إلى 50 في المئة، مؤكدة في السياق نفسه استعدادها فرض رسوم أعلى في حال أقدمت أوتاوا على اتخاذ خطوات مماثلة.
وفشلت المحادثات الأمريكية الكندية كافة في حلحلة أزمة الرسوم الجمركية، التي باتت بمنزلة الكابوس الحقيقي على الوضع الاقتصادي الكندي.
تداعيات الرسوم
ويؤكد الخبراء والمتابعون للشأن المالي والتجاري أنّ المشهد الاقتصادي الكندي بات يعاني من تداعيات الرسوم الجمركية على مواد الألمنيوم والصلب؛ إذ شهدت بعض مصانع الفولاذ والألمنيوم حالات تسريح للعمال، مشيرين إلى أنّ العديد من المصانع والشركات أصبحت تطرح أسئلة حقيقية عن قدرتها على الاستدامة والمواصلة في ظلّ المشهد الاقتصادي القاتم.
وتنقل مصادر إعلامية كندية عن كيناث لوميس الرئيس التنفيذي لمعهد صناعة الفولاذ الكندي تأكيده تصاعد حالة القلق والخوف من فقدان الوظائف داخل القطاع، وأنّ الرد الانتقامي الكندي (المقصود به فرض نسبة 25 في المئة) كان ضروريًّا ولكنه غير كاف دون وجود خطة إستراتيجية واضحة.
كما أشار لوميس إلى أنّ آثار وتداعيات الرسوم الأمريكية بدأت تلمس منظومة الصناعات الكندية، وأنّ العديد من منتجي الفولاذ يبذلون جهودًا كبيرة لتجنب سيناريو تسريح العمال كافة والاستغناء عنهم، وأنّ المصانع الكندية لا تعرف إلى حدّ اللحظة موجات كبيرة من فقدان الوظائف، ولكن الوضع الحالي يطرح الكثير من التساؤلات حول قدرات المنظومة الصناعية الكندية على المحافظة على توازناتها على المديين القصير والمتوسط، وهو ما يبدو ضبابيًّا.
رسائل استكانة
إزاء هذا المشهد، تؤكد المصادر الاقتصادية الكندية القريبة من دوائر اتخاذ القرار، أنّ حكومة كارني قدمت رسائل ضعف واستكانة حيال القرارات الأمريكية وتعاملت معها بمنطق الخضوع والخنوع، ولم تُصغِ لبعض النصائح بضرورة اعتماد النموذج الصيني أو النماذج اللاتينية في الندية في الرسوم الجمركية، وهو ما أفضى إلى زيادة واشنطن في الرسوم والاستهانة بها.
ووفق تقديرات هذه الجهات القريبة من الحكومة، فإنّ إدارة كارني، أقدمت على 3 خطوات، أضعفت موقفها التفاوضي مع واشنطن، وأربكت المشهد الاقتصادي وقللت بالتالي ثقة الفاعلين الاقتصاديين والتجاريين في الحكومة.
أمّا الخطوة الأولى فتمثلت في الانصياع السريع للتهديد الأمريكي بضرورة عدم فرض رسوم جمركية رقمية على الشركات التقنية الأمريكية بقيمة 3 في المئة، وبأثر رجعي حتى عام 2022.
وجاء التراجع الكندي بشكل سريع، عقب ساعات قليلة فقط من تهديد ترامب بإيقاف المحادثات التجارية وبإمكانية فرض رسوم جمركية عالية على السلع الكندية في حال دخول هذه الرسوم حيز التنفيذ، واصفًا الخطوات الكندية بأنها هجوم مباشر وصارخ على بلده.
والمفارقة أنّ التراجع الكندي جاء بعد إحاطة واسعة من قبل وزير المالية الكندي فرنسوا فيليب شامبين عن القيمة والجدوى المالية للضرائب الرقمية الكندية، والتي كان من المقرر أن تفرض على كل شركة تكنولوجية تجني أكثر من 15 مليون دولار من مستخدمي الإنترنت الكنديين.
وقد أوردت مصادر تكنولوجية مطلعة أنّ القرار في حال تم فرضه وتطبيقه، كان يمكن أن يدرّ على الخزينة الكندية 3 مليارات دولار.
أمّا الخطوة الثانية فتجسدّت في استثناء بعض المواد الفرعية من الفولاذ والألمنيوم الأمريكي والصيني من الرسوم الجمركية.
وحسب وثيقة رسمية كندية فإنّ وزارة المالية الكندية عدّلت أمر الإعفاء الجمركي الصادر سنة 2024 والمتعلق بالواردات الصينية والأمريكية، بحيث يشمل أنواعًا من منتجات الصلب والألمنيوم غير المصنعة داخل كندا، وذلك لدعم الشركات والمؤسسات التي تأثرت كثيرًا بالتصعيد التجاري الأمريكي.
ودخل القرار حيز التنفيذ في الخامس عشر من أكتوبر الحالي على أن يُنشر بتفاصيله الكاملة بعد شهر بالضبط، ويشمل القرار إعفاء عدد من منتجات الصلب والألمنيوم الأمريكية من الرسوم الجمركية، خاصة تلك التي تُستخدم في مجالات الصحة والأمن القوميّ والصناعات التحويلية والزراعة وتعبئة الأغذية.
وقد تعتبر هذه الخطوة بادرة حسن نية حيال الصين بعد أن دخلت العلاقات التجارية بين البلدين مرحلة “مكاسرة ضريبية”، بفرض رسوم عالية على السلع والمنتوجات المتبادلة.
فرضت الصين في بداية العام رسومًا جمركية على واردات كندية من المنتجات الزراعية والغذائية بلغت نسبة 100 في المئة، ردًّا على الرسوم الكندية التي فرضتها على السيارات الكهربائية 100في المئة ومنتجات الصلب والألمنيوم الصينية 25 في المئة.
أمّا الخطوة الثالثة، فكانت في الخطاب السياسي الرسمي الكندي الذي رفض أيّ دعوة لاعتماد النموذج الصيني في “حرب الرسوم الضريبية” مع أمريكا، وهو نموذج يقوم على الندية الضريبية وعلى فرض الشروط في التفاوض، وقد أفضى في المحصلة إلى اتفاق أمريكي صيني يرضي الطرفين، حتى وإن أعلن ترامب مؤخرًا إمكانية الخروج عنه وفرض رسوم جمركية قاسية تناهز نسبة 100 في المئة.
ورفض رئيس الوزراء الكندي مارك كارني الأسبوع الماضي الدعوات الموجهة لحكومته بضرورة الرد على الرسوم الجمركية الأمريكية، مشيرًا إلى أنّ الوقت الحالي ليس للتصعيد أو للانتقام، بل لمواصلة الحوار بين البلدين بشأن القضايا التجارية العالقة.
ولم ترض هذه التصريحات شرائح واسعة من الطيف السياسي الكندي الذين يصفون أداء “كارني” بالضعيف والمهتز حيال واشنطن..
وفي هذا السياق، دعا رئيس وزراء حكومة مقاطعة “أنتاريو” الصناعية دوغ فورد إلى تبني موقف أكثر صرامة واتخاذ خطوات انتقامية ضدّ إدارة ترامب قائلًا: “على الحكومة الفيدرالية أن تدافع بقوة عن المصالح الكندية وأن تثبت لواشنطن أنها لن تتهاون في حماية صناعتها الوطنية”، والتي تتمثل في قطاعي الصلب والألمنيوم اللذين يشكلان عماد الاقتصاد في مقاطعته.
يبدو أنّ التداعيات الاقتصادية للرسوم، متفاوتة الأثر في مستوى المقاطعات الكنديّة؛ ما يفسر حدّة نبرة رئيس وزراء مقاطعة “أنتاريو” المعروفة بالجوانب الاقتصادية والصناعية الثقيلة. وتؤكد مصادر إعلامية ميدانية أنّ مبادرة الردّ على القرارات الأمريكية انتقلت بسرعة من أوتاوا إلى “أنتاريو”، بسبب الأداء الضعيف لحكومة كارني.
تكشف مصادر إعلامية أنّ حكومة أونتاريو أطلقت، بحر الأسبوع الحالي، إعلانًا تجاريًّا جديدًا موجَّهًا للجمهور الأمريكي يهدف إلى التاثير في الرأي العام الأمريكي وكسب تعاطف صانعي القرار في واشنطن. ويستخدم الإعلان، الذي تبلغ مدته دقيقة واحدة، خطابًا ألقاه الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان عام 1987 ضد الرسوم الجمركية.
وترى حكومة رئيس الوزراء دغ فورد أن استغلال شخصية ريغان، التي تُعد رمزًا بارزًا للمحافظين الأمريكيين، قد يساعد على التأثير في أنصار الرئيس دونالد ترامب الذين يدعمون سياساته الاقتصادية الصارمة تجاه كندا. غير أن الإعلان، الذي بلغت تكلفته 75 مليون دولار أمريكي، أثار استياءً واسعًا بين سكان “أونتاريو”، الذين اعتبر كثير منهم أن إنفاق هذا المبلغ الضخم على شبكات أمريكية يمثل هدرًا لأموال دافعي الضرائب، دون أي أمل في تحقيق نتائج مرجوة.
ووفق بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي لسنة 2024، قُدِّرَ إجمالي تجارة السلع بين الولايات المتحدة وكندا بنحو 762 مليار دولار. وبلغت صادرات السلع الأمريكية إلى كندا 349 مليار دولار، بينما بلغت الواردات من كندا 413 مليار دولار. وكندا، هي ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، في حين تعد أمريكا الشريك التجاري الأكبر لكندا.
