
يشهد الاقتصاد العالمي مرحلة غير مسبوقة، مع ظهور 3 فقاعات مالية متداخلة تحاكي مزيجاً من الحماسة التاريخية والمخاطر المستقبلية. فقاعات الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة، إلى جانب الدين العام والخاص، تصنع صورة معقدة للأسواق، وتثير تساؤلات عن مدى استعداد الاقتصاد العالمي لمواجهة أي انفجار محتمل.
لا يقتصر القلق على المستثمرين وحدهم، بل يشمل صانعي السياسات والاقتصاديين الذين يحاولون قراءة ما بين خطوط الأرقام والمؤشرات. فالتشابك بين الفقاعات الثلاث يجعل التنبؤ بالنتائج النهائية أمراً صعباً، ويزيد الحاجة إلى فهم عميق للتاريخ المالي وأدوات السوق الحالية.

شهدت الأشهر الأخيرة ضخ أموال ضخمة في مشاريع الذكاء الاصطناعي، حيث بلغ التمويل لشركة إنفيديا الرائدة في إنتاج الرقائق اللازمة لتدريب الأنظمة نحو 57 مليار دولار خلال 3 أشهر فقط. ومع تحقيق أرباح قياسية، استمرت ثقة المستثمرين بالقطاع، رغم التحذيرات من الإفراط في الإنفاق على مشاريع رقمية غير مجدية، بحسب وكالة “بلومبرج”، السبت 13 ديسمبر 2025.
بعض الخبراء يحذرون من تشابه الوضع مع أزمة سوق الإسكان الأمريكي عام 2008، خاصة مع ظهور أدوات مالية لتغطية مخاطر عدم سداد القروض المخصصة للبنية التحتية الرقمية. ورغم التفاؤل، يؤكد المدير التنفيذي لغوغل أن أي انفجار محتمل في القطاع قد يؤدي إلى خسائر فادحة لشركات كثيرة، وربما تظل مراكز البيانات المكلفة بلا استخدام.
بالإضافة إلى ذلك، تحذر بعض الدراسات من تضخم السوق الرقمي بشكل مبالغ فيه، حيث يمكن أن يؤدي تدفق رؤوس الأموال بسرعة كبيرة إلى رفع أسعار الأصول التقنية دون مبرر اقتصادي حقيقي، ما يضع المستثمرين أمام خطر فقدان قيم استثماراتهم خلال فترة قصيرة.
تراجعت شهية المستثمرين مع تصاعد المخاوف من فقاعة الذكاء الاصطناعي، مما انعكس على انخفاض أسعار بيتكوين بشكل ملحوظ مؤخراً. ويرى محللون أن تقلبات بيتكوين قد تكون مؤشراً مبكراً لانخفاض أوسع في أصول أخرى، خاصة بعد انتقال بعض الشركات من تعدين العملات الرقمية إلى الاستثمار في مراكز البيانات، بحسب وكالة أنباء “رويترز”.
وتستمر المخاطر في التزايد مع ارتباط العملات المشفرة بعوامل المضاربة والتمويل الخارجي، ما يجعلها عرضة لانهيارات مفاجئة إذا تراجعت الثقة في السوق، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد المالي العالمي.
كما أن التذبذب المستمر في أسعار العملات الرقمية يشكل ضغطاً على البنية التحتية المالية للشركات، إذ يمكن أن يؤدي إلى تراجع حجم التمويل المتاح للمشاريع، وزيادة تكلفة رأس المال، وهو ما ينعكس على قدرة السوق على الاستمرار في دعم الابتكارات الرقمية.
تراجعت بتكوين بما يصل إلى 3.6% لتبلغ 89,502 دولاراً خلال تعاملات نيويورك الجمعة، لتتجه لإنهاء أسبوع التداول دون تغير يُذكر. وكانت العملة قد هوت بنحو 30% منذ بلوغها مستوى قياسياً قرب 126 ألف دولار في 6 أكتوبر الماضي، بحسب “الشرق بلومبرج”.
واصلت أكبر عملة مشفرة التراجع إلى جانب أصول المخاطر الأخرى في الأسابيع الأخيرة، لكنها لم ترتد عندما تعافت تلك الأصول، ما كسر ارتباطها الإيجابي المعتاد. ويعكس هذا الهبوط، بحسب محللين، سوقاً تعاني شح السيولة وتراجع شهية المخاطرة، حتى بعد أن فشل خفض أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الأربعاء الماضي، في إعادة الزخم إلى الأصول الرقمية.
وأشارت شركة “جلاس نود” إلى أن التقلبات الضمنية بدأت بالفعل في الانحسار، وعادة ما تستمر في الانضغاط بعد آخر حدث اقتصادي كلي رئيسي في العام، وفي هذه الحالة اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في 10 ديسمبر الحالي. وفي حال عدم حدوث مفاجأة تتعلق بتشديد السياسة النقدية، تتوقع الشركة عودة بائعين يتبعون استراتيجية “غاما” إلى السوق، ما قد يسرّع تراجع التقلبات مع اقتراب نهاية العام، ويدفع الأسواق نحو بيئة منخفضة السيولة تميل إلى الارتداد نحو المتوسطات.

الدين العام والخطر الأكبر
تتصدر الفقاعة الثالثة المشهد الاقتصادي، حيث تجاوز حجم الديون الحكومية حول العالم 100 تريليون دولار، مع ارتفاع أسرع من فترات ما قبل الجائحة. وفي بعض الدول، مثل كينيا، يذهب أكثر من نصف الإيرادات لسداد الالتزامات، فيما يقترب عبء الدين الأمريكي من مستويات ديون دول مثل إيطاليا واليونان، المرتبطة تاريخياً بالضعف المالي، بحسب شبكة “سي إن إن”.
ومع إضافة الدين الخاص، يصبح حجم الديون أكثر من 3 أضعاف الناتج الاقتصادي العالمي. ويشكل جزء كبير من هذا الدين تمويلاً لمشاريع الذكاء الاصطناعي، حيث أصدرت 4 شركات أمريكية رائدة نحو 90 مليار دولار من السندات الاستثمارية منذ بداية سبتمبر، مما يعكس حجم المخاطر المتصاعدة.
ويخشى المحللون من أن أي تراجع كبير في قدرة الحكومات أو الشركات على سداد هذه الالتزامات قد يؤدي إلى أزمة مالية عالمية مشابهة لما شهدته الأزمة المالية عام 2008، مع تأثيرات ممتدة على الاستثمارات والأسواق الناشئة والمتقدمة على حد سواء.
مع تحول التمويل من الأرباح التشغيلية إلى الاقتراض بكثافة، ارتفعت تكلفة إصدار الدين، وأصبح تأمينه ضد مخاطر عدم السداد مسألة حيوية، إذ اقتربت بعض السندات من مستويات قياسية شهدتها الأزمة المالية عام 2008.
ورغم ذلك، يستمر بناء مراكز البيانات حول العالم، حيث يُقدر عددها بنحو 12,000 مركز، نصفها في الولايات المتحدة، بينما تسعى أوروبا لتقليل الفجوة الجغرافية عبر إنشاء مصانع “جيجا” للذكاء الاصطناعي باستثمار يبلغ 20 مليار يورو، ما قد يخفف من مخاطر تشبع العرض في السوق.
ويؤكد خبراء الاقتصاد أن التوازن بين التمويل الحكومي والخاص، وتخطيط الإنفاق على البنية التحتية الرقمية، سيحدد قدرة الأسواق على مقاومة أي صدمات محتملة، ويُعتبر عنصراً أساسياً لتجنب تأثيرات الانفجار المالي الكبير.

تشبه فقاعات العملات المشفرة حمى التوليب الهولندية في القرن 17، في حين يشهد الذهب ارتفاعاً ملحوظاً كملاذ آمن ضد تقلبات الأسواق، مع توقع وصول أسعاره لمستويات قياسية خلال العام المقبل.
وبالرغم من أن انفجار فقاعة الدين العام قد يكون كارثياً، فإن بعض الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية يمكن أن تتحول لقيمة طويلة الأجل، كما حدث مع مشاريع السكك الحديد البريطانية القديمة التي أثبتت فائدتها على المدى الطويل، رغم الخسائر الأولية للمستثمرين.
وتؤكد التجارب التاريخية أن الاستثمار المدروس والوعي بالمخاطر، مع القدرة على قراءة المؤشرات المالية بدقة، يمكن أن يقلل من آثار أي فقاعة مالية، ويحوّل التحديات الاقتصادية إلى فرص مستدامة للنمو والابتكار.
رؤية
