دور تركيا المتنامي في الساحل الأفريقي

دخلت منطقة الساحل الأفريقي مرحلة من التحول الأمني ​​والجيوسياسي المتسارع خلال السنوات القليلة الماضية، والتي تشكلت في المقام الأول من خلال تراجع النفوذ الغربي – وخاصة الفرنسي – والتقليص التدريجي للمشاركة الدفاعية الأمريكية.

أتاح هذا التحول المجال أمام جهات خارجية جديدة، أبرزها تركيا، التي سارعت إلى ترسيخ مكانتها كشريك عسكري وأمني محوري في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد. ويعكس التواجد المتزايد لأنقرة تحولاً واضحاً من دور مورد الأسلحة إلى دور فاعل أمني نشط، يعمل من خلال شراكات متكاملة تجمع بين مبيعات الأسلحة والتدريب والدعم الاستخباراتي والبنية التحتية اللوجستية.

وأدت الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد منذ عام 2020 إلى تهيئة بيئة مواتية لهذا التوسع. فقد أدى انسحاب القوات الفرنسية وتراجع التعاون العسكري الأمريكي إلى فراغ أمني ملموس، لا سيما في عمليات مكافحة الإرهاب ومراقبة الحدود. وسارعت تركيا إلى سد هذا الفراغ، مستفيدةً من سمعتها كشريك موثوق قادر على التسليم السريع، والترتيبات التعاقدية المرنة، والتكاليف المنخفضة مقارنةً بالموردين الغربيين. كما اكتسبت أنظمة الدفاع التركية جاذبيةً بفضل فعاليتها التشغيلية التي تضاهي البدائل الروسية والصينية، مع تجنب الحساسيات السياسية المرتبطة بكل من الشروط الغربية والنماذج شبه العسكرية الروسية.

تجلّى هذا التحوّل الاستراتيجي بوضوح في معرض باماكو الدولي للدفاع والأمن (BAMEX 2025)، الذي استضافته مالي في الفترة من 11 إلى 14 نوفمبر 2025 تحت إشراف رئاسة الصناعات الدفاعية التركية. ولأول مرة، شهد المعرض حضورًا تركيًا واسع النطاق وحصريًا إلى حد كبير. وقدّمت نحو 30 شركة تركية، من بينها بايكار وأسيلسان وأوتوكار، حلولًا دفاعية متكاملة تشمل طائرات مسيّرة مسلحة (TB2 وأكينجي)، ومركبات مدرعة، وأنظمة قيادة وتحكّم، وأدوات حرب إلكترونية، وذخائر ذكية. والأهم من ذلك، أن المعرض تجاوز العروض الثابتة، ليشمل اختبارات ميدانية حية ضمن بيئة العمليات في منطقة الساحل نفسها، مما يؤكد عزم أنقرة على تسويق شراكة أمنية شاملة طويلة الأمد، قائمة على الفعالية والثقة، وليس منصات فردية.

يرتكز نفوذ تركيا في منطقة الساحل على نموذج متكامل يجمع بين تكنولوجيا الدفاع المتقدمة والتدريب والخدمات الاستشارية، بالإضافة إلى دمج الأنظمة التركية تدريجياً في المؤسسات العسكرية المحلية، دون الحاجة إلى نشر قوات قتالية تركية على نطاق واسع. وتُعدّ تكنولوجيا الطائرات المسيّرة جوهر هذا النموذج. فقد أصبحت الطائرات المسيّرة المسلحة العمود الفقري للعمليات العسكرية التركية، مُعيدَةً تشكيل ديناميكيات ساحة المعركة من خلال توفير قدرات مراقبة مستمرة وضربات دقيقة بتكلفة أقل بكثير من المنصات الغربية، ودون القيود السياسية أو البيروقراطية التي يفرضها عادةً الموردون الأوروبيون أو الأمريكيون.

تتميز الطائرات التركية المسيرة، ولا سيما طراز “أكينجي”، بقدرة حمولة تصل إلى 1500 كيلوغرام، وقدرة على التحليق لأكثر من 25 ساعة، مما يجعلها مناسبة تمامًا لمهام الاستطلاع والضربات الجوية في منطقة الساحل الشاسعة والوعرة. وتعزز أنظمة الذخائر الذكية وأجهزة الاستشعار المتكاملة من جاذبيتها، إذ تربط الجيوش المحلية بسلاسل الإمداد التركية وبرامج التدريب وشبكات الصيانة على المدى الطويل. وقد أثمرت هذه القدرات آثارًا عملياتية مباشرة. ففي مالي، دعمت الطائرات التركية المسيرة الجيش في استعادة مدينة كيدال، ومكّنته من شن ضربات دقيقة ضد الجماعات المتمردة. وفي النيجر، عززت المراقبة على طول الحدود مع ليبيا ومالي. وفي بوركينا فاسو، قدمت دعمًا عملياتيًا للقوات الحكومية في الشمال والشرق، بينما في تشاد، حلت محل الطائرات الفرنسية في القواعد الأمامية بعد تعليق التعاون مع باريس، مع بقاء الفنيين الأتراك لتقديم الدعم العملياتي والصيانة المستمر.

إلى جانب الطائرات المسيّرة، زوّدت أنقرة مجموعة من المركبات المدرعة والأنظمة البرية المصممة خصيصًا لمواجهة التحديات الأمنية في منطقة الساحل. وقد غيّرت منصات مثل كيربي وإيدر يالتشين وخضر طبيعة الدوريات وعمليات القوافل، لا سيما في مالي وبوركينا فاسو، حيث حلت محل المعدات الغربية الثقيلة التي تتطلب صيانة مكثفة. توفر هذه المركبات حماية محسّنة ضد العبوات الناسفة اليدوية الصنع، وقدرة أكبر على التنقل بين المواقع العسكرية المعزولة. وفي النيجر، مكّنت المركبات التكتيكية الأخف وزنًا من الانتشار السريع على طول الحدود المفتوحة، وسهّلت ملاحقة الجماعات المسلحة العابرة للحدود في مناطق لا تناسبها المنصات الغربية الثقيلة. أما في تشاد، فيتركز التعاون بشكل متزايد على توفير مركبات منخفضة التكلفة وعالية التحمل لتعزيز جاهزية القوات البرية العاملة في مساحات صحراوية شاسعة.

يولي التعاون التركي اهتماماً بالغاً ببرامج التدريب والاستشارة. فبدلاً من التركيز حصراً على كبار الضباط، أولت أنقرة الأولوية لضباط الصف والوحدات النخبوية، وقدمت دورات متخصصة في مكافحة الإرهاب، وحرب العصابات، وإدارة الأزمات، وتكامل المعلومات الاستخباراتية. وفي مالي، درّبت فرق تركية القوات الخاصة ووحدات التدخل السريع على حرب غير متكافئة مُكيّفة مع تضاريس الغابات والسافانا. وفي بوركينا فاسو، انصبّت الجهود على تحسين تكتيكات مكافحة الكمائن وتعزيز جاهزية وحدات مكافحة الإرهاب والدرك. وفي النيجر، ركّز المدربون الأتراك على وحدات حرس الحدود وفرق الاستجابة السريعة، مع التركيز على جمع المعلومات الاستخباراتية القتالية ودمجها في أنظمة القيادة والسيطرة. وفي تشاد، يتجه التعاون نحو بناء وحدات مراقبة صحراوية قادرة على تشغيل أنظمة جديدة في التضاريس المفتوحة والوعرة.

الأهم من ذلك، أن دور أنقرة لا يقتصر على تسليم المعدات أو التدريب. فقد استثمرت تركيا في إنشاء شبكات للصيانة والإمداد واللوجستيات تضمن التشغيل المستمر للأنظمة التركية وترسيخ وجود مؤسسي دائم ضمن الهياكل الدفاعية المحلية. وتتيح مراكز الصيانة المشتركة للطائرات المسيّرة في مالي استمرار العمليات عبر خطوط إمداد مباشرة من أنقرة. وفي النيجر، أنشأت تركيا نقاط دعم عملياتية في الشمال، مما عزز قدرة نيامي على تسيير دوريات جوية طويلة الأمد فوق المثلث الحدودي الليبي المالي. وفي بوركينا فاسو، ضمنت البنية التحتية للصيانة الميدانية النشر المستمر للمركبات المدرعة على طول الطرق الحيوية، بينما يتجه التعاون مع تشاد نحو وضع أسس شبكة لوجستية لدعم الأنظمة الجديدة تدريجياً.

وتنعكس هذه الاتجاهات في بيانات نقل الأسلحة التي جمعها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، والتي تُظهر زيادة مطردة في صادرات الدفاع التركية إلى دول الساحل على مدى السنوات الأخيرة.

إلى جانب التعاون الرسمي بين الدول، اعتمدت تركيا أيضاً على جهات عسكرية خاصة لتوسيع نفوذها مع الحد من انكشافها السياسي. وتشير التقارير إلى أن شركات مثل “سادات” تعمل في مالي والنيجر، حيث تقدم التدريب لوحدات مختارة، بما في ذلك تشكيلات أمنية مرتبطة بالسلطات الانتقالية. كما تشير التقارير إلى وجود مقاتلين سوريين في النيجر منذ عام 2023، مكلفين بحماية منشآت النفط ومواقع التعدين والقواعد العسكرية، مع مشاركة محدودة في العمليات. يتيح هذا النموذج لأنقرة توسيع نفوذها بتكلفة منخفضة نسبياً مع الحفاظ على قدر من الإنكار المعقول.

تتجاوز أهداف تركيا في منطقة الساحل التعاون الأمني ​​المباشر. إذ تسعى أنقرة إلى بناء شراكات دفاعية طويلة الأمد تُرسّخ مكانتها كشريك أمني لا كمُورّد، ما يُحوّل المنطقة إلى سوق مستدامة للصناعات الدفاعية التركية. وفي الوقت نفسه، تُوفّر منطقة الساحل لتركيا عمقًا استراتيجيًا، يربط بين وجودها المتنامي في غرب أفريقيا وموطئ قدمها الراسخ في ليبيا وطموحاتها الأوسع في شرق المتوسط.

يُضيف الوصول إلى المعادن الحيوية بُعدًا آخر لهذا التعاون. فالليثيوم والذهب في مالي، واليورانيوم في النيجر، والذهب في بوركينا فاسو، تزداد أهميتها في الصناعات التحويلية المتقدمة، والصناعات الدفاعية، وتقنيات الطاقة النظيفة. ومن هذا المنطلق، يُعدّ التعاون الأمني ​​أداةً لحماية الاستثمارات المستقبلية وضمان الوصول إلى الموارد الاستراتيجية في منطقة تتسم بمنافسة دولية حادة.

على الصعيد الاستراتيجي، يُعيد التواجد التركي المتنامي في منطقة الساحل تشكيل موازين القوى الإقليمية. فهو يُقلل من اعتماد المنطقة على التدخل العسكري الغربي، ويزيد من نفوذ أنقرة على عملية صنع القرار الأمني ​​القومي، ويُعمّق التنافس مع فرنسا، في حين يُقدّم بديلاً للنماذج الأمنية الروسية. وبصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعمل بشكل مستقل في أفريقيا، فقد وضعت تركيا منطقة الساحل كركيزة أساسية في استراتيجيتها الخارجية والأمنية الأوسع.

بمجملها، تُشكل استراتيجية تركيا تجاه منطقة الساحل نقطة تحول واضحة. فمن خلال الجمع بين التكنولوجيا المتقدمة والتدريب والتواجد الاستخباراتي والشبكات اللوجستية، انتقلت أنقرة بشكل حاسم من مُورّد للأسلحة إلى فاعل أمني مؤثر. ومع استمرار تراجع الأدوار الفرنسية والأمريكية، نجحت تركيا في سد جزء من الفراغ الأمني، مُرسّخةً وجودها ضمن الهياكل الدفاعية المحلية، وموسعةً نفوذها إلى ما هو أبعد من التعاون العسكري، وصولاً إلى صميم إدارة الأمن الإقليمي، مما قد يُعيد تشكيل المشهد التنافسي لمنطقة الساحل في السنوات القادمة.

إلى جانب التعاون الرسمي بين الدول، اعتمدت تركيا أيضاً على جهات عسكرية خاصة لتوسيع نفوذها مع الحد من انكشافها السياسي. وتشير التقارير إلى أن شركات مثل “سادات” تعمل في مالي والنيجر، حيث تقدم التدريب لوحدات مختارة، بما في ذلك تشكيلات أمنية مرتبطة بالسلطات الانتقالية. كما تشير التقارير إلى وجود مقاتلين سوريين في النيجر منذ عام 2023، مكلفين بحماية منشآت النفط ومواقع التعدين والقواعد العسكرية، مع مشاركة محدودة في العمليات. يتيح هذا النموذج لأنقرة توسيع نفوذها بتكلفة منخفضة نسبياً مع الحفاظ على قدر من الإنكار المعقول.

تتجاوز أهداف تركيا في منطقة الساحل التعاون الأمني ​​المباشر. إذ تسعى أنقرة إلى بناء شراكات دفاعية طويلة الأمد تُرسّخ مكانتها كشريك أمني لا كمُورّد، ما يُحوّل المنطقة إلى سوق مستدامة للصناعات الدفاعية التركية. وفي الوقت نفسه، تُوفّر منطقة الساحل لتركيا عمقًا استراتيجيًا، يربط بين وجودها المتنامي في غرب أفريقيا وموطئ قدمها الراسخ في ليبيا وطموحاتها الأوسع في شرق المتوسط.

يُضيف الوصول إلى المعادن الحيوية بُعدًا آخر لهذا التعاون. فالليثيوم والذهب في مالي، واليورانيوم في النيجر، والذهب في بوركينا فاسو، تزداد أهميتها في الصناعات التحويلية المتقدمة، والصناعات الدفاعية، وتقنيات الطاقة النظيفة. ومن هذا المنطلق، يُعدّ التعاون الأمني ​​أداةً لحماية الاستثمارات المستقبلية وضمان الوصول إلى الموارد الاستراتيجية في منطقة تتسم بمنافسة دولية حادة.

على الصعيد الاستراتيجي، يُعيد التواجد التركي المتنامي في منطقة الساحل تشكيل موازين القوى الإقليمية. فهو يُقلل من اعتماد المنطقة على التدخل العسكري الغربي، ويزيد من نفوذ أنقرة على عملية صنع القرار الأمني ​​القومي، ويُعمّق التنافس مع فرنسا، في حين يُقدّم بديلاً للنماذج الأمنية الروسية. وبصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعمل بشكل مستقل في أفريقيا، فقد وضعت تركيا منطقة الساحل كركيزة أساسية في استراتيجيتها الخارجية والأمنية الأوسع.

بمجملها، تُشكل استراتيجية تركيا تجاه منطقة الساحل نقطة تحول واضحة. فمن خلال الجمع بين التكنولوجيا المتقدمة والتدريب والتواجد الاستخباراتي والشبكات اللوجستية، انتقلت أنقرة بشكل حاسم من مُورّد للأسلحة إلى فاعل أمني مؤثر. ومع استمرار تراجع الأدوار الفرنسية والأمريكية، نجحت تركيا في سد جزء من الفراغ الأمني، مُرسّخةً وجودها ضمن الهياكل الدفاعية المحلية، وموسعةً نفوذها إلى ما هو أبعد من التعاون العسكري، وصولاً إلى صميم إدارة الأمن الإقليمي، مما قد يُعيد تشكيل المشهد التنافسي لمنطقة الساحل في السنوات القادمة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *