داعش: كيف يقود الذكاء الاصطناعي الغزوة الرقمية الجديدة في قلب بريطانيا

في الوقت الذي ظنّ فيه العالم أنّ تنظيم (داعش) قد تلقى ضربات قاصمة أنهت وجوده الجغرافي، تكشف تقارير استخباراتية حديثة عن تحول استراتيجي خطير ينقل المعركة من ميادين القتال التقليدية إلى ساحات “الخوارزميات” والبيانات الضخمة. التقرير الأخير الذي نشرته صحيفة (ذا تليغراف) البريطانية، وعقّب عليه مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، يزيح الستار عن استعانة التنظيم للمرة الأولى بتقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) لاختراق المجتمع البريطاني، في محاولة لاستنساخ “جيش رقمي” جديد وتجنيد جيل آخر من “الذئاب المنفردة”. 

هذا التحول لا يمثل مجرد تحديث تقني، بل يشير إلى “منعطف رقمي” يعيد رسم ملامح التهديد الإرهابي في أوروبا، ويضع الأجهزة الأمنية أمام تحديات غير مسبوقة في رصد ومكافحة المحتوى المتطرف. توضح المعلومات الواردة أنّ استخدام تنظيم (داعش) للذكاء الاصطناعي لم يعد ضرباً من الخيال العلمي، بل أصبح واقعاً ملموساً يقضّ مضاجع أجهزة الأمن البريطانية (MI5) و(MI6). فالتنظيم الذي اعتمد سابقاً على فيديوهات هوليوودية عالية الجودة، انتقل الآن لتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي لتجاوز الحواجز اللغوية والرقابية بسرعة فائقة.

وتكمن خطورة هذا التكتيك الجديد في القدرة على “الإنتاج الكمي” و”الترجمة الفورية”. فبدلاً من الاعتماد على مترجمين بشريين، يستخدم التنظيم خوارزميات لترجمة وثائقه وافتتاحيات صحفه، مثل (النبأ)، من العربية إلى عشرات اللغات العالمية في ثوانٍ معدودة. 

هذه السرعة تمنح التنظيم ميزة تكتيكية حاسمة: القدرة على إغراق منصات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، إكس، تليجرام) بالمحتوى المتطرف قبل أن تتمكن خوارزميات الرقابة والحذف من رصده وإزالته. إنّها لعبة “القط والفأر” حيث يسبق فيها الذكاء الاصطناعي الإرهابي إجراءات الحظر بخطوة، ممّا يسهل وصول الرسائل الدعائية إلى فئات جديدة من الجمهور الغربي بلغاتهم الأم، دون الحاجة لوسيط.

لا يأتي هذا التطور التقني من فراغ، بل يتزامن مع تحذيرات أطلقها السير كين ماكالوم، المدير العام لجهاز الأمن الداخلي البريطاني (MI5)، الذي أكد في إحاطته السنوية أنّ تنظيمي (القاعدة) و(داعش) باتا “أكثر جرأة” الآن. ويربط التقرير بين هذا النشاط الرقمي وبين عودة الحراك الميداني في مناطق التوتر التقليدية (الشرق الأوسط والقرن الأفريقي)، حيث يستغل التنظيمان حالة السيولة الأمنية وعدم الاستقرار لتعزيز صفوفهما.

وتشير التقديرات إلى أنّ تنظيم (داعش) لا يهدف فقط للتحريض على شن هجمات داخل أوروبا، بل أطلق “حملة تجنيد جديدة” تستهدف استقطاب المقاتلين الأجانب للسفر إلى سوريا مجدداً. وتستحضر هذه التحركات ذكريات العقد الماضي، حين نجح التنظيم في جذب نحو (30) ألف مقاتل أجنبي، بينهم (900) بريطاني. 

المخاوف الآن تتركز على “الجيل الجديد” من الشباب الذين لم يعاصروا صعود وسقوط دولة الخلافة المزعومة، ويتم استدراجهم اليوم عبر شاشات هواتفهم الذكية باستخدام تقنيات جذابة ومؤثرة.

واقعة “مطار غاتويك”… الدليل المادي على التهديد وللتدليل على أنّ التهديد قد تجاوز المرحلة النظرية، يورد التقرير حالة واقعية لشاب بريطاني يبلغ من العمر (18) عاماً من جنوب لندن، مثل أمام المحكمة، مؤخراً، بتهم تتعلق بالإرهاب. الشاب تم القبض عليه في مطار “غاتويك” أثناء محاولته السفر إلى إسطنبول، وهي البوابة التقليدية للعبور إلى سوريا.

هذه القضية تُظهر بوضوح أنّ الدعاية الرقمية، المعززة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، بدأت تؤتي ثمارها السامة على الأرض، محوّلةً المراهقين من مستهلكين للمحتوى الرقمي إلى مشاريع إرهابية عابرة للحدود. ورغم أنّ بريطانيا تواصل جهودها العسكرية ضمن عملية “شيدر” في سوريا والعراق، إلا أنّ المعركة الأمنية داخل الحدود البريطانية تبدو أكثر تعقيداً في ظل التطور التكنولوجي.

في تحليله لهذا المشهد المعقد، يضع مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يده على الجرح، واصفاً ما يحدث بأنّه “منعطف خطير” سبق للمرصد التحذير منه. ويرى المرصد أنّ الخطورة لا تكمن فقط في الترجمة، بل في قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج “محتوى مُفصّل” (Tailored Content).

يعني هذا المفهوم أنّ التنظيم لم يعد يرسل رسالة موحدة للجميع، بل يمكنه استخدام البيانات والخوارزميات لصياغة رسائل تخاطب الحالة النفسية والاجتماعية لكل فئة مستهدفة. فالذكاء الاصطناعي قادر على توليد صور ورسائل عاطفية، مصممة بدقة للتلاعب بمشاعر المراهقين، وإثارة حماسهم، واستغلال نقاط ضعفهم “(مثل الشعور بالاغتراب أو الظلم”. وتتم صياغة هذه الرسائل بلغة شبابية قريبة من فهمهم، وهو ما يضاعف من “الجاذبية النفسية” للفكر المتطرف، ويجعل عملية غسل الدماغ أسرع وأكثر فاعلية.

أمام هذا التغول التقني يطرح مرصد الأزهر رؤية للمواجهة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية. يرى المرصد أنّ مكافحة “الإرهاب الذكي” تتطلب أدوات ذكية مماثلة، داعياً إلى تطوير ما يمكن تسميته بـ “الذكاء الاصطناعي المضاد” (Counter-AI).

وتتلخص هذه الاستراتيجية في النقاط التالية:

  • الرقابة التقنية الاستباقية: تطوير خوارزميات قادرة على اكتشاف الأنماط الدعائية للتنظيمات وفهم سياقها وحذفها قبل انتشارها، وليس بعد الإبلاغ عنها.
  • التعاون الدولي: ضرورة تنسيق الجهود بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى لتضييق الخناق على المنصات المفتوحة التي يستغلها التنظيم.
  • المعالجة المجتمعية: التكنولوجيا وحدها لا تكفي؛ إذ يشدد المرصد على ضرورة دعم المبادرات التي تعالج “الهشاشة النفسية والاجتماعية” لدى الشباب، وسدّ الفجوات التي يتسلل منها الخطاب المتطرف.

يخلص التقرير إلى أنّ دخول الذكاء الاصطناعي ساحة التجنيد الإرهابي يمثل تدشيناً لمرحلة جديدة من “حرب العقول”. لم يعد الإرهاب مجرد بندقية أو عبوة ناسفة، بل تحول إلى “كود برمجي” قادر على التلون والاختراق والانتشار بسرعة الضوء.

وكما أشار مرصد الأزهر في إصداراته السابقة (مجلة Step Forward)، فإنّ المعركة القادمة ستكون تقنية بامتياز، والبقاء فيها سيكون لمن يمتلك القدرة على توظيف التكنولوجيا لحماية القيم المجتمعية، وليس لهدمها. إنّ ما كشفته (ذا تليغراف) هو مجرد رأس جبل الجليد، وما خفي في الشبكة المظلمة وخوارزميات التشفير قد يكون أعظم وأخطر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *