الجبهة الداخلية الأميركية تتسع ضد الإخوان المسلمين

يمثل قرار حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس إدراج جماعة الإخوان المسلمين ضمن قائمة “التنظيمات الإرهابية” خطوة غير مسبوقة تعكس ما يمكن وصفه بالتحوّل العميق والمتسارع في المزاج السياسي الأميركي تجاه الجماعة.

وبعد سنوات طويلة من مقاربة مرتبكة تراوحت بين الاحتواء والتجاهل، بدأت الولايات المتحدة تتجه تدريجيًا نحو تبني رؤية أكثر صرامة تعتبر الإخوان حركة أيديولوجية عابرة للحدود تشكل تهديدًا صامتًا يمكن أن يتطور إلى خطر حقيقي على المدى البعيد.

وبهذا المعنى، فإن قرار فلوريدا لا يبدو حدثًا معزولًا، بل نقطة بارزة في منحنى سياسي يتجه نحو مزيد من التشدد إزاء التنظيمات التي تعتمد خطابًا مزدوجًا وتُتهم بالسعي لبناء نفوذ موازٍ داخل المجتمعات الغربية.

وكان لافتًا أن ديسانتيس لم يكتف بإعلان التصنيف عبر منصة “إكس”، بل تبعه بتعليمات صريحة للمؤسسات الرسمية في الولاية بوقف أي امتيازات أو موارد يمكن أن يستفيد منها الأشخاص الداعمون للتنظيمين في “أنشطتهما غير القانونية”.

ويكشف هذا الإجراء، الذي يضع الإخوان في خانة التنظيمات الأجنبية المعادية، عن رؤية سياسية جديدة داخل الأوساط المحافظة الأميركية ترى أن المعركة مع الجماعات الإسلامية السياسية يجب ألا تُترك للحكومة الفيدرالية وحدها، وأن للولايات الحق — بل الواجب — في اتخاذ تدابير وقائية تستبق الخطر قبل وقوعه.

وتستند هذه المقاربة إلى سردية راسخة في الخطاب اليميني تفيد بأن الإخوان ليسوا مجرد تنظيم سياسي في الشرق الأوسط، بل شبكة فكرية وتنظيمية تمتد جذورها إلى الداخل الأميركي من خلال جمعيات ومراكز ومنظمات تُتهم بأنها واجهات ناعمة للمشروع الإخواني.

وليس من قبيل المصادفة أن ولاية تكساس اتخذت خطوة مماثلة مؤخرًا، حين أعلن حاكمها غريغ أبوت تصنيف الجماعة ضمن “التنظيمات الإرهابية الأجنبيةو”التنظيمات الإجرامية الدولية“.

ويؤشر هذا التزامن بين ولايتين ذات ثقل سياسي وانتخابي إلى أن التحول ضد الإخوان بات يتجاوز المبادرات الفردية ويميل إلى أن يصبح تيارًا سياسيًا متماسكًا داخل الولايات الجمهورية، خصوصًا في ظل مناخ انتخابي يزداد استقطابًا، وحاجة القيادات المحلية لإظهار تشدد أكبر في ملفات الأمن القومي.

ويأتي هذا السياق الأميركي المتبدل في ظل إرث ثقيل من الشكوك التي تراكمت حول الجماعة خلال العقد الأخير.

وأظهرت التجارب السياسية التي مرّت بها المنطقة العربية منذ 2011، لا سيما تجربة حكم الإخوان في مصر، للولايات المتحدة الوجه الذي كانت الجماعة تخفيه خلف خطاب الإصلاح والمشاركة المدنية. وضع الإخوان في خانة التنظيمات الإرهابية يكشف عن رؤية سياسية جديدة داخل الأوساط المحافظة الأميركية ترى أن المعركة مع الجماعات الإسلامية السياسية يجب ألا تُترك للحكومة الفيدرالية وحدها، وأن للولايات الحق في اتخاذ تدابير وقائية تستبق الخطر قبل وقوعه.

وقد عزز ذلك قناعة عدد من المراقبين وصناع القرار الأميركيين بأن الإخوان يعتمدون استراتيجية “الوجهين”: خطاب ديمقراطي منفتح يظهر عند التعامل مع الغرب، يقابله مشروع سياسي أيديولوجي مغلق يتسع كلما تمكنت الجماعة من السيطرة على مؤسسات الدولة أو التأثير فيها.

ولكون الولايات المتحدة تعتمد في تقييم مخاطرها على تحليل المسارات المستقبلية أكثر من السلوكيات الراهنة، فقد أصبح ملف الإخوان مرتبطًا بتحذيرات واسعة داخل المؤسسات الأمنية من قدرة التنظيم على بناء شبكات نفوذ ناعمة يمكن أن تتطور إلى تهديد مستتر يصعب رصده. ومع تراجع الثقة في الخطاب الذي حاولت الجماعة تسويقه لسنوات باعتبارها وسطية” و”معتدلة”، بدأت واشنطن تنظر بجدية أكبر إلى التحليلات التي تربط بين الإسلام السياسي والتطرف.

ويقول مراقبون إنه حتى وإن لم تمارس الجماعة العنف مباشرة داخل الولايات المتحدة، إلا أن فلسفتها السياسية وإدارتها للعلاقات مع العالم الخارجي باتت تُقرأ في ضوء البيئة الإقليمية التي أنتجت عشرات التنظيمات المتشددة، وهو ما دفع قطاعات أميركية للتساؤل عن الحدود الحقيقية بين الإخوان وبين الحركات الأكثر تطرفًا، وعن إمكانية أن تكون الجماعة حاضنة فكرية أو بيئة ممهّدة للتطرف، حتى لو لم تنخرط مباشرة في الإرهاب. ويأتي هذا التصعيد على مستوى الولايات منسجمًا مع توجهات البيت الأبيض الذي أعاد طرح ملف الإخوان في سياق أوسع من مراجعة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.

وعندما وقع الرئيس دونالد ترامب، أواخر نوفمبر مرسومًا يوجه إدارته لبدء دراسة تصنيف فروع من الجماعة في بعض الدول كتنظيمات إرهابية، أعطى إشارة واضحة بأن الحكومة الفيدرالية فتحت الباب أمام إعادة تقييم شاملة للعلاقة مع تنظيم لطالما اعتُبر ضبابيًا في نواياه وأهدافه. ورغم عدم اتخاذ قرار نهائي على المستوى الفيدرالي، إلا أن هذا التوجيه الرئاسي أطلق ديناميكية سياسية جديدة أتاحت لحكّام الولايات التحرك وفق رؤيتهم الخاصة.

ولا يمكن فصل تبدل الموقف الأميركي تجاه الجماعة عن تأثير مواقف حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فالدول التي صنّفت الإخوان كتنظيم إرهابي — مثل مصر والسعودية والإمارات — لم تكتفِ بالإجراءات الأمنية، بل قدّمت لواشنطن سرديات وتحقيقات وبيانات حول طبيعة التنظيم وشبكاته العابرة للحدود.

وبالنظر إلى التحالفات الاستراتيجية بين هذه الدول والولايات المتحدة، فقد ساهمت تلك المعطيات في ترسيخ رؤية أميركية جديدة ترى في الإخوان ليس مجرد حزب معارض كما يقدّم نفسه في بعض الدول، بل بنية سياسية أيديولوجية لها مشروع عالمي يتصادم مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط.

وتعكس هذه التحولات أيضًا تغيرًا في طبيعة الخطاب الأميركي. فبعد عقود من التعامل مع الإسلام السياسي باعتباره مكونًا يمكن احتواؤه ضمن العملية الديمقراطية، بدأت واشنطن تدرك أن التنظيمات التي تعتمد نموذج “المرشدو”الأيديولوجيا العابرة للحدود” لا تنسجم مع القيم الليبرالية والديمقراطية الأميركية، حتى لو تبنّت خطابًا عامًا يغازل تلك القيم.

وقد أدى هذا الإدراك إلى تعزيز القناعة بأن الإخوان لا يمثّلون تهديدًا مباشرًا فحسب، بل يمثلون تحديًا طويل الأمد لا يمكن تجاهله. ويُتوقع أن تفتح الإجراءات التي اتخذتها فلوريدا وتكساس الباب أمام مرحلة سياسية جديدة في الولايات المتحدة قد تشهد فيها الجماعة — ومن يشك في ارتباطهم بها — تضييقًا متزايدًا على أنشطتهم، سواء على مستوى التمويل أو التنظيم أو العمل الاجتماعي.

كما قد تشهد المحاكم الأميركية سيلًا من الدعاوى المرتبطة بهذا الملف، خاصة مع إصرار كير على مقاضاة ديسانتيس. لكن حتى في حال كسبت المنظمة بعض القضايا القانونية، فإن الحرب الرمزية والسياسية عليها قد تكون قد وصلت إلى نقطة يصعب التراجع عنها.

إن ما يجري اليوم يعكس سياقًا أكبر يعيد فيه صناع القرار الأميركي تعريف مفهوم الأمن القومي، بحيث لا يقتصر على التهديدات العسكرية المباشرة، بل يشمل كذلك التنظيمات التي تعتمد خطابًا دينيًا مسيّسًا قد ينتج بيئة خصبة للتطرف أو يسهم في خلق شبكات نفوذ موازية.

وفي هذا الإطار، يبدو أن الإخوان المسلمين يقفون اليوم أمام واحدة من أكثر اللحظات حساسية في علاقتهم مع الولايات المتحدة، بعدما انتقل المزاج العام من مرحلة الشك إلى مرحلة الاتهام الصريح، وربما لاحقًا إلى مرحلة المواجهة الكاملة.

وبذلك، يصبح قرار فلوريدا ليس مجرد خطوة إدارية، بل مؤشرًا على مسار سياسي عميق في طور التشكل، مسار يعكس إعادة تقييم جذرية لدور الإخوان داخل وخارج الولايات المتحدة، ويشدد على أن التنظيم الذي تأسس عام 1928 لم يعد يُنظر إليه في واشنطن كما كان يُنظر إليه قبل سنوات قليلة، بل بات يُعتبر جزءًا من إشكالية أكبر تتعلق بصعود الحركات الأيديولوجية العابرة للحدود.

 وفي ظل هذا التحول المتسارع، يبدو أن الجماعة ستواجه مستقبلًا أكثر صعوبة في الولايات المتحدة، حيث تستعد مؤسسات الحكم لإغلاق ما تبقى من هوامش المناورة أمامها، بما قد يؤدي في النهاية إلى تقليص حضورها ونفوذها إلى حد كبير داخل المجتمع الأميركي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *