أمن قومي مصري: التكنولوجيا في مهمة تقسيم السودان

يُعدّ تقسيم السودان أحد المخططات التي تستهدف تطويق مصر استراتيجيًا. فخلال الأعوام الأخيرة، تحوّل الصراع السوداني من مواجهات ميدانية إلى حرب متعددة الأبعاد، أصبحت فيها التكنولوجيا عنصرًا حاسمًا يُسرّع من تفكيك الدولة وفصل مناطقها عن المركز، سواء من خلال العزل الميداني أو عبر صياغة روايات إعلامية تبرر الانفصال.

الطائرات المسيرة والانتحارية (loitering drones وkamikaze) أصبحت أداة يومية لضرب القواعد والمطارات ومحطات البنى التحتية الاستراتيجية في مناطق بعيدة عن خطوط الجبهات التقليدية. كما حدث باستهداف مطار الخرطوم ومواقع حيوية أخرى في شهر أكتوبر 2025، يُظهر ذلك أن التحكم بالفضاء الجوي يسمح ببتر قدرات الدولة السودانية على مستوى جيوب الخدمة والنقل واللوجستيات، ما يساهم عمليًا في فصل المناطق وإضعاف الإدارة المركزية عليها.

استخدام الطائرات المسيرة الانتحارية في استهداف محطات الكهرباء ومستودعات الوقود وكابلات الاتصالات يصنع «جزرًا» حقيقية منعزلة، وهي مناطق تفقد القدرة على العمل المدني والإداري وتصبح معتمدة على مصادر محلية أو على المساعدات. هذا العزل الخدمي يجعل من العاصمة أو الإدارة المركزية الواحدة أقل واقعية ويُسهِم في قبول محلي لفكرة حكم محلي بإدارة منفصلة.

قطع الإنترنت عن بعض المناطق أو تضرر الكابلات الأرضية يزيد من عزلة مناطق بأكملها، في المقابل تُستخدم خدمات الإنترنت عبر الأقمار أو أدوات بديلة للحفاظ على قناة اتصال خاصة بالقوى المدعومة خارجيًا. هذه الديناميكا تخلق معابر معلوماتية لا تخضع لدولة موحدة، وتسمح بظهور «مراكز قيادة» إنترنتية محلية تعمل كحكومة بديلة.

الاستثمار في حملات التضليل من خلال صفحات التواصل الاجتماعي والحسابات الوهمية ومقاطع الفيديو المزورة يسمح للفصائل بصياغة روايات مبررة للانفصال أو إقامة سلطة محلية «شرعية». أدوات الإعلام الرقمي تُستغل لتشويه الطرف الآخر، لزرع الخوف أو الأمل لدى السكان المحليين، ولتوجيه الرأي الدولي تدريجيًا نحو قبول تقسيم فعلي أو حكم ذاتي.

عمليات اختراق الحسابات وهجمات الأمن السيبراني وتسريب المعلومات تُضعف قدرة الدولة المركزية على إدارة أزماتها، وتعرقل عمل المنظمات الإنسانية، وتعطيل قواعد البيانات الحكومية أو أنظمة الهوية الرقمية يجعل من الصعب على مركز واحد فرض سياسات شاملة أو تقديم خدمات متلاحمة عبر البلاد، وهذا كله يصب في تحقيق فكرة تحويل الدولة إلى جزر محلية.

استخدام تقنيات الإنترنت المظلم “الدارك ويب” والعملات الإلكترونية العملات المشفرة” في عمليات شراء الأسلحة وتدفق الطائرات المسيرة وقطع الغيار، عبر قنوات غير شرعية باستخدام تقنيات التكنولوجيا الخفية غير القابلة للتتبع، يساعد الجماعات الانفصالية على تحقيق عملية الإمداد والتموين للأسلحة والمعدات التكنولوجية. هذا التموين يعني أن أي محاولة سيطرة مركزية لن تعيد توحيد المناطق بسهولة، إذ ستبقى لدى تلك الجماعات أدوات تشغيل تمنحهم واقعًا مستقلًا.

أثناء مخطط عملية انفصال الجنوب منذ الستينات وحتى إتمامه عام 2011 لم يكن المشاهد والمتابع للحدث منفتحًا على التكنولوجيا كما هو الآن، فقد حلت الآن صفحات التواصل الاجتماعي ومتابعة الخبر مباشرة مكان ما هو معهود سابقًا من الجرائد والأخبار غير المباشرة.

لذا ظهرت التكنولوجيا في مخطط التقسيم كأداة لإسراع العملية والعمل على الانتهاء منها في ظل تكنولوجيا تساعد على المشاهدة العالمية المباشرة، وهذا ما أظهرته قضية طوفان الأقصى، فأظهرت كيف تفاعل معها العالم في جميع أرجاء المسكونة.لذا كان على القوى المخططة للتقسيم أن تصنع رواية مضللة تخدع المشاهد والمتابع بصورة مباشرة.

فالتكنولوجيا لم تَصنع الصراع في السودان، لكنها جعلت من التقسيم فعلًا عمليًا ميدانيًا وسياسيًا، ليس فقط عبر القتل والتدمير، بل عبر صناعة بنى تحتية بديلة، من قنوات معلوماتية متنافسة، وعزل رقمي وجغرافي. إن مواجهة هذا الخطر لا يقتصر على وقف استخدام الأسلحة أو استعادة البنية الرقمية فحسب، بل يتطلب استراتيجية شاملة من حيث حماية البنى التحتية المدنية، ومكافحة التضليل، وتأمين قنوات اتصال إنسانية مشروعة، وفوق كل ذلك قطع سبل إمداد القدرات التقنية العسكرية غير المشروعة.

انفصال جنوب السودان وعملية تقسيم السودان الحالية يخدم مخطط “إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وإفريقيا” الذي يهدف إلى تفكيك المراكز القوية، وخاصة مصر والسودان. فمنذ الستينات وإسرائيل تعمل على تطويق مصر عبر دول الجوار:

والهدف الواضح للعيان هو إضعاف الدور الإقليمي المصري وعزله عن العمق الإفريقي والعربي. فالسودان كان يمثل جسرًا لمصر نحو إفريقيا، وتقسيمه جعل الجنوب يرتبط مباشرة بالقوى الغربية وإسرائيل، مما قلل النفوذ المصري في القارة، وجعل جنوب السودان ورقة ضغط في ملف مياه النيل تُستخدم ضد مصر في المفاوضات المائية.

هذا المخطط هو من الأهداف المباشرة تجاه تطويق مصر وصناعة وفرض عزلة عليها من جميع الاتجاهات، ولذا نجد دائمًا السياسة المصرية في ملف السودان تحاول الموازنة ودعم وحدة السودان ما أمكن، مع بناء علاقات حذرة مع جوبا (عاصمة الجنوب) لتأمين المصالح المائية والأمنية.

في ظل هذا العصر وإمكانياته التكنولوجية من الأدوات التي تمنح المتابعة والمشاهدة المباشرة، نجد أن رسالة الوعي هي الرسالة الحاضرة من حيث الأهمية والخطورة. فيجب على كل أفراد المجتمع أن يكونوا على قدر من المسئولية والوعي والفهم لكل هذه المخططات، والانتباه لما يُخطط ويوجّه لهم عبر هذه الوسائل المباشرة، محافظين على وحدة بلادهم مهما اختلفت أيديولوجياتهم، والوعي بأهمية الحفاظ على تماسكهم ضد هذه المخططات. حفظ الله مصر وكفانا شر كل ذي شر، ورد للسودان وحدته وأراضيه.

المصدر: رؤية

أحمد بدر: استشاري وخبير تطوير النظم البرمجية والإدارية

badrmedia@dewsoft.net

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *