اتفاق الدوحة: هل تنجح خريطة الطريق بين الكونغو الديمقراطية وحركة „إم 23“؟

في ليلة ثقيلة على ذاكرة شرق الكونغو الديمقراطية، ومفتوحة على احتمالات لا تنتهي من الألم والأمل، خرجت الدوحة قبل أسابيع بخريطة طريق جديدة قد تغيّر معادلة واحدة من أعقد النزاعات في القارة الأفريقية. في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وقّعت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية وحركة إم23 اتفاقًا تاريخيًا حمل اسم „اتفاق الدوحة الإطاري للسلام“، وهو وثيقة شاملة تتضمن ثمانية بروتوكولات تنفيذية، تُوضع للمرة الأولى تحت إشراف ومتابعة مباشرة من دولة قطر والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي.


كان المشهد لحظة استثنائية مكثّفة بالدلالات السياسية لا مجرد توقيع بروتوكولي، خصوصًا بعدما بلغت المواجهات بين الطرفين ذروة غير مسبوقة أواخر 2024 وبداية 2025، حين سيطرت الحركة على مدينة غوما الإستراتيجية، ما دفع كثيرين إلى الاعتقاد بأن البلاد تتجه نحو انهيار شامل لسلطة الدولة في الشرق المضطرب.

منذ مطلع القرن الماضي، استخدمت الإدارة البلجيكية سياسات تمييزية عمّقت الشرخ بين الهوتو والتوتسي، وهو الشرخ ذاته الذي انفجر لاحقًا في رواندا عام 1994، قبل أن تنتقل موجات النزوح إلى الكونغو، حاملة معها رواسب الإبادة الجماعية وذكريات الدم. ومع انهيار سلطة الدولة خلال حكم موبوتو سيسي سيكو، تراجعت مؤسسات الجيش، وتكاثرت الجماعات المسلحة مثل الفطر، لتصبح شرق الكونغو ساحة صراع مفتوح، تشارك فيه عشرات المليشيات، بعضها محلي وبعضها الآخر عابر للحدود.


في هذا السياق، نشأت حركة إم 23، بعد انشقاق ضباط من التوتسي عام 2012 احتجاجًا على عدم تنفيذ اتفاق 23 مارس/آذار. ورغم هزيمتها لاحقًا وانسحابها، عادت بقوة عام 2021، وسيطرت خلال 2022–2024 على مساحات واسعة من إقليم شمال كيفو، إلى أن وصلت إلى أهم وأخطر لحظة: السيطرة على غوما. كانت تلك اللحظة الصادمة التي دفعت الأطراف، قسرًا، نحو التفاوض. وهكذا بدأت الدوحة في مارس/آذار 2025 جولة وساطة غير تقليدية، بمشاركة واشنطن والاتحاد الأفريقي.

من إعلان وقف النار إلى الاتفاق الإطاري

تدرّجت الوساطة القطرية عبر ثلاثة مستويات رئيسية: اتفاق تهدئة بين الكونغو ورواندا في واشنطن (يونيو/حزيران 2025)، وهو اتفاق حدّ من التوتر المباشر بين البلدين. إعلان مبادئ لوقف إطلاق النار في الدوحة في 19 يوليو/تموز 2025، بين كينشاسا وحركة إم23. اتفاق الدوحة الإطاري للسلام في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وهو الوثيقة الأشمل.


هذا الاتفاق الأخير يُعد اليوم المرجعية الأساسية، لأنه لا يكتفي بوقف النار، بل يفتح ملفات حساسة مثل الهوية، والمواطنة، وعودة اللاجئين، ونزع السلاح، واستعادة سلطة الدولة، والمصالحة، والتنمية.
وتقول وزارة الخارجية القطرية إن الاتفاق يتضمن ثمانية بروتوكولات استراتيجية، اثنان منها وُقّعت بالفعل، بينما تخضع ستة لاستكمال التفاوض. وتشمل:


المساعدات الإنسانية والحماية القضائية. استعادة سلطة الدولة والإصلاحات وترتيبات الحكم. الترتيبات الأمنية المؤقتة ونزع سلاح الجماعات المحلية. التعامل مع الجماعات المسلحة الأجنبية. الهوية والمواطنة وعودة النازحين وإعادة التوطين. الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي. العدالة والمصالحة.


بعض البنود يبدو سهلًا على الورق، لكن تطبيقه في أرض معقدة مثل شرق الكونغو لا يشبه أي منطقة أخرى في أفريقيا. ومع ذلك، يكتسب الاتفاق قوة إضافية من وجود آلية مراقبة دولية تشمل قطر والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي، على أن تُحلّ الخلافات أولًا وديًا ثم بالعودة إلى الوسطاء.

يقرأ جمال البواريد، المحلل السياسي الدولي والكاتب في وكالة الأنباء الأردنية، الاتفاق من زاوية أخرى هي “إعادة ضبط الهوية الوطنية” في بيئة تداخلت فيها الانتماءات حتى بات من الصعب تمييز حدود المجتمع من حدود الميدان العسكري.


يقول البواريد إن اتفاق الدوحة „ليس مجرد تفاهم أمني“، بل خطوة جريئة تضع الدولة الكونغولية أمام التزام تاريخي بإعادة تعريف علاقتها بمكوّناتها السكانية، خصوصًا جماعات التوتسي، التي عانت لعقود من إشكالات مرتبطة بالمواطنة، والاندماج، وحقوق الملكية ،والتنقل.


ويضيف: „الدوحة لم تُنتج فقط وقفًا لإطلاق النار، بل أنتجت اعترافًا ضمنيًا بأن جذور المشكلة أعمق من معسكرات المقاتلين، وأن معالجة ملف الهوية والمواطنة هو المدخل الحقيقي لنزع فتيل الصراع، وهذا ما لم تجرؤ أي وساطة سابقة على طرحه بهذا الوضوح.“


ويرى البواريد أن لحظة سقوط غوما كانت بمثابة „إنذار وجودي“ لكينشاسا، جعلها تقبل لأول مرة التعامل مع إم23 كفاعل سياسي لا كخصم أمني فقط. وحول الدور القطري، قال: „الدوحة تمتلك قدرة نادرة على صناعة الثقة بين أطراف تتشكك في بعضها، وهذا بحد ذاته عامل نجاح. فحين تكون الوساطة مقبولة من قِبل كينشاسا وكيغالي وواشنطن في الوقت نفسه، فإن ذلك يخلق بيئة حقيقية للحلول.“


أما عن فرص النجاح، فيضعها البواريد في معادلة ثلاثية: التزام الأطراف مراقبة دولية فعالة تحسين الظروف الاقتصادية في شرق الكونغو. بالنسبة لخالد الحروب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نورث وسترن في قطر، فإن أهمية اتفاق الدوحة تأتي من كونه أول اتفاق يضع شرق الكونغو في مركز المعادلة بدل أن يهمّشه كما حدث في مبادرات سابقة.


يقول الحروب إن الأزمة في جوهرها „ليست أزمة حدود أو موارد فقط، بل أزمة تراكمات تاريخية أنجبت عشرات الجماعات المسلحة التي تتحرك بين أربع دول، ما يجعل الحل الأمني مجرد وهم.“
ويضيف: „ما يميّز اتفاق الدوحة أنه ينتقل من معالجة النتائج إلى معالجة الأسباب. فملف الهوية والمواطنة، مثلًا، ظل محرّمًا سياسياً لسنوات طويلة، ومع ذلك فتحته الوساطة القطرية بجرأة.“


يرى الحروب أن الجانب الأكثر حساسية في الاتفاق هو ملف نزع السلاح وإعادة الدمج، لأن الحركة، حسب قوله، „تمتلك بنية تنظيمية صلبة، وخبرة ميدانية، وعلاقات إقليمية، ولا يمكن تفكيكها بقرارات سياسية فقط.“ لكنه يؤكد أن وجود آلية مراقبة مشتركة بين قطر والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي „يشكل ضمانة غير مسبوقة“.


ويضيف: „الشرق الكونغولي منطقة عابرة للمصالح الإقليمية. أي اتفاق لا يضع رواندا، أوغندا، وبوروندي في حساباته هو اتفاق بلا أرجل. لكن الدوحة استطاعت أن تجمع تلك الأطراف بطريقة غير مباشرة داخل نص الاتفاق.“


ويذهب الحروب إلى أن نجاح الاتفاق مرتبط بثلاثة مؤشرات أساسية خلال 2026: هل ستعود سلطة الدولة إلى كيتشانغا وبوينا وغوما؟ هل تقبل إم23 بترتيبات إعادة دمج جدية؟ هل ستتوقف الحرب بالوكالة بين كينشاسا وكيغالي؟


ويختم: „إذا نجح الاتفاق فسيكون أكبر اختراق سياسي في أفريقيا خلال العقد الأخير. وإذا فشل فستعود المنطقة إلى الفوضى.“ ويركز خالد المعايطة، الخبير الاستراتيجي في قطر، على البعد العسكري للاتفاق، معتبرًا أن „التطبيق الأمني هو بوابة النجاح أو الفشل.“


يقول المعايطة إن البروتوكول المتعلق بالترتيبات الأمنية المؤقتة هو الأكثر حساسية، لأنه يحدد: مناطق انتشار القوات آليات الانسحاب نزع سلاح الجماعات المحلية التعامل مع الجماعات المسلحة الأجنبية آلية العودة للنازحين


ويضيف: „حركة إم23 قوة عسكرية ليست سهلة، تمتلك خبرة تكتيكية في المناطق الجبلية، وتعرف طرق الإمداد ومسارات الغابات. بالتالي، أي اتفاق لا يضع ترتيبات نشر دقيقة سيبقى هشًا.“ ويرى المعايطة أن إشراف قطر والولايات المتحدة على مراقبة التنفيذ يعطي الاتفاق قوة ردعية، “لأن الطرفين، الحكومة والحركة، يدركان أن العالم يراقب، وأن العودة للقتال ستعني خسارة سياسية استراتيجية”.


ويقول أيضًا: „منطقة شمال كيفو ومعها بيني وروتشورو ليست مجرد جغرافيا، بل عقدة أمنية وملاذ لجماعات أجنبية مثل إف دي إل أر وغيرها. لذا فإن نزع سلاح هذه الجماعات أو إخراجها يحتاج تعاونًا إقليميًا، لا مجرد اتفاق ثنائي.“ ويضيف أن استعادة سلطة الدولة „لن تتحقق فقط بإعادة انتشار الجيش، بل بإعادة بناء الشرطة والقضاء والإدارة المحلية.“


أما تهاني دياب، محررة الشؤون السياسية في وكالة أنباء الصين (شينخوا)، أن العالم ينظر غالبًا للنزاع الكونغولي كقضية مسلحة، بينما يتم تجاهل العامل الاقتصادي، رغم أنه “البذرة الأولى للنزاع، وهو البذرة الأولى لإنهائه”. تقول دياب إن شرق الكونغو “أغنى أرض فقيرة في العالم”، لاحتوائه على: الكولتان الذهب النحاس الليثيوم الكوبالت، لكن هذه الثروات، كما تصفها، “تحولت إلى لعنة، لأنها جلبت شركات غير شرعية، ومهربين، وجماعات مسلحة، وعصابات إقليمية.”


وتضيف: „اتفاق الدوحة يفتح لأول مرة ملف الإنعاش الاقتصادي، وهذا هو أهم بروتوكول في رأيي، لأن التنمية هي التي تعيد الناس إلى بيوتهم، وتعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، وتبني مؤسسات قادرة على مواجهة الفساد.“ وتشير إلى أن التعاون الاقتصادي بين قطر والكونغو، خاصة مذكرات التفاهم الأخيرة في كينشاسا، „سيخلق بيئة جديدة قد تجعل السلام خيارًا مربحًا، لا مجرد التزام سياسي.“
وتحذر في الوقت نفسه من أن أي فشل اقتصادي “سيدفع آلاف الشباب للعودة إلى حمل السلاح، لأن الفراغ الاقتصادي هو الوقود الحقيقي للحرب.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *