
عدد النازحين في بوركينا فاسو ومالي والنيجر والدول المجاورة بلغ قرابة 4 ملايين شخص، مما يمثل زيادة تقرب من 66 في المئة مقارنة بما كانت عليه قبل خمسة أعوام، وذلك بسبب تفاقم انعدام الأمن، وتراجع إمكان الوصول إلى الخدمات الأساسية ومصادر الرزق، إضافة إلى التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ.
يسود التوجس في الجزائر وأوروبا إزاء الأوضاع المتردية التي تشهدها مالي في ظل توسع مساحات نشاط الجماعات الإرهابية التي وصلت إلى تخوم العاصمة باماكو، وبقدر التخوف من سيطرة “القاعدة” و”داعش” على المنطقة وما يتبعها من فوضى، تبقى قوافل النازحين واللاجئين تثير كثيراً من التساؤلات لدى دول الجوار والشمال بالخصوص.
وتسبب تأزم الأوضاع في دولة مالي على خلفية حصار الوقود الذي فرضته جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة لتنظيم “القاعدة”، على العاصمة باماكو، وفشل المجلس العسكري الحاكم في فرض الأمن والاستقرار الذي وعد به الشعب المالي، في ارتفاع أعداد النازحين الفارين من جحيم الجماعات الإرهابية، الأمر الذي فرض ضغطاً رهيباً على دول الجوار.
وفي حين لم يتم الكشف عن أرقام الماليين الذين نزحوا إلى دول شمال أفريقيا خلال الفترة الأخيرة، إلا أن السلطات الجزائرية لا تستبعد إمكان تدفق اللاجئين على حدود البلاد الجنوبية، وما يحمله في طياته من تهديدات أمنية وديموغرافية وأعباء اجتماعية واقتصادية، وتحدثت تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الأممية عن اضطرار نحو 4 ملايين شخص إلى مغادرة منازلهم بسبب تصاعد أعمال العنف وانعدام الأمن.
وأفادت المفوضية الأممية أن منطقة الساحل الأفريقي تشهد نزوحاً جماعياً، نتيجة تصاعد أعمال العنف وتدهور الأوضاع الأمنية، وأعلنت أن الدول المتأثرة غير قادرة على مواجهة هذه الأزمة بمفردها، مطالبة المجتمع الدولي بتقديم دعم أكبر لمساعدتها في التصدي للتحديات المتفاقمة، موضحة أن عدد النازحين في بوركينا فاسو ومالي والنيجر والدول المجاورة بلغ قرابة 4 ملايين شخص، مما يمثل زيادة تقرب من 66 في المئة مقارنة بما كانت عليه قبل خمسة أعوام، وأرجعت هذا التصاعد إلى تفاقم انعدام الأمن، وتراجع إمكان الوصول إلى الخدمات الأساسية ومصادر الرزق، إضافة إلى التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ.
ونبهت المفوضية أن نحو 75 في المئة من النازحين في منطقة الساحل لا يزالون داخل حدود بلدانهم، إلا أن وتيرة التنقل عبر الحدود تشهد تصاعداً ملحوظاً، مما يزيد الضغط على المجتمعات المضيفة، مضيفة أن النساء والأطفال يشكلون قرابة 80 في المئة من إجمال النازحين، وشددت على أن انعدام الأمن في منطقة الساحل يعرض السكان لأخطار عدة من بينها العنف، والانخراط في التجنيد القسري، وتقييد حرية التنقل، إضافة إلى الاحتجاز التعسفي، مما يفاقم معاناة النازحين ويهدد استقرار المجتمعات المحلية.
وذكرت تقارير أن بين 50 و70 ألف لاجئ من محافظات أزواد تومبكتو وكيدال في مالي، وصلوا إلى حدود الجزائر، إضافة إلى عشرات الآلاف من مدن تيساليت وأنفيف التي تم إفراغها بشكل شبه كامل من سكانها إبان كثافة المعارك بين حركات الأزوادية من جهة، والجيش المالي وقوات “فاغنر” بالجهة المقابلة، وما رافقها من انتهاكات واعتداءات في حق المدنيين.
وبخصوص انعكاسات الوضع على الجزائر، أكد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، أن الأزمات والانفلات الأمني في دول الساحل، لا يشكلان أي تهديد بالنسبة إلى الجزائر، مشيراً إلى أنها قد تشكل تهديداً على من يمارس الجيوسياسية، وقال “في دول الساحل، دائماً ما كان هنالك إرهابيون”، و”الجزائر هي أكبر مدرسة في مكافحة الإرهاب”.
وفي السياق، يعتبر أستاذ العلاقات الدولية عبدالوهاب حفيان، في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، أن الأزمة المرتبطة بحصار العاصمة باماكو أسهمت بصورة كبيرة في ظهور أزمات انشطارية، ولا بد من أن شظاياها ستصيب الجميع في المنطقة، ومن أبرز هذه الأزمات الهجرة، وقال إن هذه الأزمة لن تكون عادية بقدر ما ستكون هجينة، لأن التطرف والإرهاب عادة ما يرتدي لباس الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، ومن هنا تأتي خطورة جغرافية الإرهاب الجديدة في أفريقيا والساحل تحديداً.
وأوضح حفيان أن التأثيرات تشكل تهديدات جمة ومتنوعة على الجزائر كنقطة تماس، لا سيما ما تعلق بعمليات الاتجار غير الشرعي وتهريب البشر، إلى جانب العبء الاجتماعي والاقتصادي الذي لا ينفك من أخذ منحنى تصاعدي في المناطق الحدودية الجزائرية المالية، ناهيك بالأعباء الأمنية المرتبطة بالأمن الصحي والإنساني.
ويمكن أن يشكل ما يحدث في مالي فرصة لكل من الأنظمة الانقلابية العسكرية في بوركينافاسو والنيجر لإعادة بلورة هندستها السياسية في ما يخص علاقتها مع الجزائر بشكل عقلاني براغماتي قصد تفادي سيناريو مالي، بعيداً من الشعبوية، ووفقاً لمنظور الشراكة مع دول الجوار الحيوي المباشر لها وهي الجزائر، وفق حفيان.
وأشار المتحدث إلى أن الجانب الأوروبي ينظر بحذر إلى تحوّل مالي من دولة فاشلة إلى دولة مصدرة للفشل، وهذا ما انعكس بصورة أساس على اتفاقات الهجرة مع موريتانيا كجار لمالي، وعلى عمليات تمويل العمليات المشتركة مع ليبيا وموريتانيا في المتوسط بغية تشديد الرقابة على حركات الهجرة القادمة من هذه الدول باعتبارها دول عبور للمهاجرين القادمين من مناطق التوتر الأمني، بخاصة أن الأطروحات الإنسانية عادة ما تكبل الخيارات أمام صانع القرار في الجزائر أو على مستوى البرلمان الأوروبي.
في المقابل، يرى الأكاديمي المهتم بالشؤون الأفريقية مبروك كاهي، في حديث إلى “اندبندنت عربية”، أن أزمة اللجوء والهروب الجماعي أو الهجرة غير النظامية بالتعبير الأدق، جذورها تسبق الجماعات الإرهابية، وأسبابها أعمق، موضحاً أن “تحرك الجماعات الإرهابية لا أعتقد أنه سيفاقم الوضع أو يؤثر في المعدلات”، وأضاف أن المرتبط بصورة أساس بأزمة اللجوء والهجرة غير النظامية هم شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود والاتجار بالبشر التي ستجد البيئة الخصبة لازدهار نشاطها.
ويواصل كاهي أن تأثير الوضع في الجزائر في ظل العلاقات المتوترة مع السلطة الانتقالية في باماكو سيكون من الصعب احتواؤه، لا سيما أمام غياب التنسيق المشترك بين الجانبين، مشيراً إلى أن الجزائر لها القدرة على إدارة أزمة اللجوء مع دول الجوار، إذ سبق أن تعاملت مع وضع مماثل في تسعينيات القرن الماضي، كذلك فإنها تدير باقتدار وكفاءة عالية أزمة اللجوء المتعلقة بالصحراويين الفارين من مناطق النزاع بين المغرب وجبهة البوليساريو، موضحاً أن طرق مواجهة الخطر تتطلب تحلي السلطة الانتقالية في باماكو بالمسؤولية الأخلاقية والمسارعة لتحديد الفترة الانتقالية والتنسيق مع دول الجوار لمحاصرة الجماعات الإرهابية وتحييد خطرها.
ولا يتعلق الأمر بالجزائر ودول جوار منطقة الساحل، بل يتعدى خطر اللاجئين والنازحين الماليين والأفارقة عموماً إلى الاتحاد الأوروبي الذي تتجادل دوله حول توزيع أعباء الهجرة واللجوء، لا سيما أن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تقريرها الأخير، حذرت من أزمة تمويل حادة تهدد حياة أكثر من 11.6 مليون لاجئ حول العالم، مع تقليص أو تعليق 1.4 مليار دولار من البرامج الأساسية، وأشارت إلى تلقي المفوضية 23 في المئة فقط من أصل 10.6 مليار دولار، متطلبات تمويل المفوضية لعام 2025، مقارنة بـ50 في المئة عادة ما تتوفر في مثل هذا التوقيت من العام.
ووفقاً لتحليل المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، فإن بعض الدول ستكون الأشد تضرراً من ضغوط الهجرة خلال العام المقبل، مما يجعلها مؤهلة لتلقي الدعم من شركائها في الاتحاد الأوروبي، وأوضحت أن دولاً مثل اليونان وقبرص وإسبانيا وإيطاليا ستعتبر في عام 2026 الأكثر تأثراً بضغوط الهجرة، إذ تواجه الأولى والثانية أعداداً غير متناسبة من الوافدين، فيما تتعامل إسبانيا وإيطاليا مع أزمات متكررة ناجمة عن عمليات إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط.
وُضعت ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وهولندا ضمن مجموعة الدول المعرضة لخطر متزايد نتيجة ارتفاع أعداد الوافدين وضغط أنظمة الاستقبال، فيما ستتحمل دول مثل السويد والبرتغال والمجر ورومانيا ولوكسمبورغ التزامات باستقبال مهاجرين من دول أخرى أو المساهمة بمساعدات مالية ولوجستية.
وتقضي القواعد الجديدة بأن يتم إعادة توطين ما لا يقل عن 30 ألف طالب لجوء في أوروبا سنوياً، أو دفع مساهمات مالية إجمالية بقيمة 600 مليون يورو (نحو 700 مليون دولار) سنوياً لصندوق التضامن، إلا أن الأرقام الفعلية في العام المقبل ستكون أقل لأن النظام لن يدخل حيز التنفيذ قبل منتصف 2026، وتندرج هذه التطورات في سياق تطبيق إصلاح شامل لنظام اللجوء الأوروبي الذي يسعى إلى تحقيق توزيع أكثر عدالة للمسؤوليات بين الدول الأعضاء.
إلى ذلك، يشدد الباحث في قضايا الأمن والتنمية بمنطقة الساحل، سلامة الصادق فرابي، في حديث إلى “اندبندنت عربية” على أن تأزم الوضع في مالي ينذر بكارثة إنسانية تهدد كل جوار منطقة الساحل، وهو ما تتخوف منه الجزائر مع نزوح الآلاف من المدنيين، وقال “يبقى أكبر تهديد تتوجس منه الجزائر هو تسلل أو اختراق إرهابي لقوافل النازحين والفارين”، مضيفاً أن الوضع يؤثر حقيقة في الجزائر، لكن السلطات تسعى إلى اتخاذ الإجراءات لمواجهة الحالة من خلال ضبط ومراقبة الحدود الطويلة مع مالي.
ويعترف فرابي أن ارتفاع عدد المهاجرين والنازحين من دول الساحل سيثقل كاهل الجزائر من جهة الكلف المالية والبشرية التي يتطلبها التكفل بهؤلاء اللاجئين على مستوى العلاج والإسكان والتعليم والتشغيل والاندماج بالخصوص، مستبعداً تغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد على اعتبار أن المجتمع الجزائري لا يتأثر بالمهاجرين بخاصة غير الشرعيين، لكنه عبء وضغط حقيقيان.
من جانبه، يرى الإعلامي المهتم بالشؤون الدولية، عبدالقادر بوماتع، في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، أن تفاقم الأوضاع الأمنية في مالي وتوسع نطاق تحرك الجماعات الإرهابية تحولا إلى مصدر تهديد مباشر لباقي دول المنطقة، ولا يمكن تجاهل أن النظام العسكري في مالي يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية بعدما فشل في ضبط الوضع الداخلي، وسمح بسوء إدارة المرحلة الانتقالية بتمدد الفوضى وانهيار المنظومة الأمنية هناك.
وأضاف الإعلامي المهتم بالشؤون الدولية أن تداعيات هذا الانفلات بالنسبة إلى الجزائر ليست مجرد ملفات محسوبة على الورق، بل ضغوط ميدانية حقيقية، “فالجزائر التي تعد الأكثر تماساً مع العمق المالي تجد نفسها أمام تحديين متوازيين، حماية حدودها الشاسعة من خطر تسلل الجماعات المسلحة، والتعامل في الوقت نفسه مع موجات بشرية تبحث عن ملاذ آمن”.
ويشير بوماتع إلى أنه بات من الضروري تعزيز التنسيق الإقليمي وتوفير دعم دولي فعلي لخطط الاستقرار، لأن ترك الوضع ينزلق بهذه الوتيرة لن يهدد الجزائر فحسب، بل سيمتد تأثيره إلى أوروبا التي ستجد نفسها أمام موجات لجوء جديدة، مما قد ينعكس على السياسات الداخلية وعلى ملف الهجرة الذي يشهد حساسية متزايدة داخل الاتحاد الأوروبي، وختم أن ما يحدث في مالي ليست أزمة داخلية، بل جرس إنذار للمنطقة بأكملها، ولا بد من تحرك جماعي قبل أن تتجاوز التداعيات القدرة على احتوائها.
