اعتداءات 13 نوفمبر الإسلامية تسببت في تراجع الحريات الفردية في فرنسا

عقب اعتداءات 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، تم فرض حالة الطوارئ في فرنسا، ما منح السلطات المدنية صلاحيات موسعة لمكافحة الإرهاب، لكنه في المقابل قيد الحريات الفردية. ورغم انتهاء حالة الطوارئ في خريف عام 2017، فإن بعض الإجراءات التي فرضت خلالها أدرجت منذ ذلك الحين في القانون العام، كما جاءت قوانين أخرى لتوسيع وسائل مراقبة المواطنين، الأمر الذي أثار استياء المدافعين عن حقوق الإنسان الأساسية. 

لم يستغرق الأمر سوى بضع ساعات، في ليلة 13 إلى 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، حتى فُرضت حالة الطوارئ في فرنسا. ولم تعرف البلاد إجراء مماثلا منذ حرب الجزائر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم خلال أحداث الشغب في الضواحي عام 2005. وقد دفع حجم اعتداءات باريس وسان دوني رئيس الجمهورية آنذاك، فرانسوا هولاند، إلى إدخال البلاد في نظام قانوني استثنائي، كانت بدايته تراجعا في الحريات الفردية ما زال مستمرا حتى اليوم. 

فعليا، مكنت حالة الطوارئ التي فرضت عام 2015 من تعزيز صلاحيات السلطات المدنية وتقييد بعض الحريات العامة أو الفردية. فقد أصبح بالإمكان فرض “الإقامة الجبرية على “أي شخص تتوفر بشأنه أسباب جدية تدعو إلى الاعتقاد بأن سلوكه يشكل تهديدا للأمن والنظام العام.  أصبح من الممكن حل الجمعيات التي تشارك أو تسهل أو تحرض على أفعال تخل بشكل خطير بالنظام العام، وذلك بقرار من مجلس الوزراء. وتمنح السلطات الإدارية صلاحية إصدار أوامر بمصادرة الأسلحة والذخائر التي يملكها أصحابها أو اقتنوها بصفة قانونية. 

أما المواقع الإلكترونية التي تروج للإرهاب أو تحرض على أعمال إرهابية، فيمكن حجبها بقرار من وزير الداخلية. ويمكن أيضا لوزير الداخلية أو المحافظين إصدار أوامر بإجراء مداهمات في أي مكان، باستثناء الأماكن المخصصة لممارسة مهام النواب أو الأنشطة المهنية للمحامين أو القضاة أو الصحافيين، إذا وجدت أسباب جدية للاعتقاد بأن هذا المكان يرتاده شخص يشكل سلوكه تهديدا للأمن والنظام العام. 

رغم أن هذه الإجراءات مكنت السلطات، في الأسابيع الأولى، من تحقيق نتائج في ملاحقة منفذي اعتداءات 13 نوفمبر، إلا أنه تم سريعا استخدامها لأغراض أخرى.  وفي هذا الصدد، أوضحت ناتالي تيو، رئيسة رابطة حقوق الإنسان، قائلة “باسم الإرهاب الذي أصبح ذريعة لكل شيء، منحت السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة جدا. وقد نفذ عدد هائل من المداهمات الإدارية التي لم تكن بالضرورة مرتبطة بالإرهاب، بل استخدمتها الشرطة في ملفات أخرى لأغراض قضائية، بدون أي رقابة مسبقة من قاض.” 

كما استخدمت حالة الطوارئ أيضا لمنع المظاهرات أو الحيلولة دون تنفيذ تحركات محتملة لناشطين. فبينما كانت فرنسا تستعد لتنظيم مؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ في باريس في كانون الأول/ديسمبر 2015، تم إبلاغ عشرات النشطاء البيئيين، في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، بقرارات تقضي بوضعهم تحت الإقامة الجبرية طوال فترة المؤتمر. 

وقد تم تمديد حالة الطوارئ عدة مرات: ثلاثة أشهر في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ثم ثلاثة أشهر أخرى في نهاية شباط/فبراير 2016، فشهرين إضافيين في نهاية أيار/مايو من العام نفسه، قبل أن تمدد مرتين لمدة ستة أشهر عقب هجوم نيس في 14 تموز/يوليو 2016. وفي النهاية، استمرت لمدة ثلاثة أشهر ونصف إضافية قبل أن ترفع نهائيا في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2017. 

أضافت ناتالي تيو بأسف: “المشكلة هي أنه كلما تأخرنا في الخروج من حالة الطوارئ، أصبح من الصعب أكثر القول إننا سنتوقف. وخلال هذا الوقت، نعود الناس على تقبل إجراءات استثنائية، فنحول ما كان يفترض أن يكون ظرفيا واستثنائيا إلى أداة من أدوات الإدارة العامة. وهذا بالضبط ما حدث في خريف عام 2017 مع قانون سيلت الذي أدخل بعض تدابير حالة الطوارئ في القانون العام”. 

وينص قانون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب سيلت الصادر في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2017 على إدماج أحكام كانت حتى ذلك الحين محصورة في إطار حالة الطوارئ ضمن القانون العادي. وهكذا، أصبحت “الإقامات الجبرية تعرف باسم الإجراءات الفردية للرقابة الإدارية والمراقبة” (ميكا)، وأعيدت تسمية المداهمات الإدارية بـ”الزيارات المنزلية”. كما أصبح من حق محافظي المدن الآن إقامة نطاقات حماية حول المواقع التي قد تعد أهدافا محتملة لهجمات إرهابية، بهدف مراقبة الدخول إليها. 

وقد درس الباحث نيكولا كلوصر، من مركز البحوث السوسيولوجية حول القانون والمؤسسات العقابية، قرارات الإقامة الجبرية التي اتخذت خلال حالة الطوارئ بين عامي 2015 و2017، وكذلك الإجراءات الفردية للرقابة الإدارية والمراقبة (ميكا). وخلص إلى أن الضمانات المفترضة الموجودة على الورق تبقى في الواقع محدودة جدا عند التطبيق. 

يلاحظ الباحث نيكولا كلوصر “أن 90٪ من إجراءات الميكا يتم تأييدها من قبل القاضي الإداري، الذي نادرا ما يشكك في التقارير البيضاء الصادرة عن أجهزة الاستخبارات والمقدمة من وزارة الداخلية”. وقبل عام 2015، كانت الإجراءات الإدارية الوحيدة التي يمكن أن تطال المواطنين الفرنسيين تقتصر على تجميد الأصول ومنع مغادرة الأراضي الفرنسية، أما اليوم فقد باتت وزارة الداخلية تمتلك ترسانة أوسع من التدابير الإدارية التي ازداد نطاقها بشكل ملحوظ. 

يكفي اليوم أن يكون لدى الشخص أي صلة، ولو بسيطة، بأشخاص أدينوا في قضايا تتعلق بالإرهاب، حتى يصبح مهددا بإجراء من نوع ميكا أو زيارة منزلية. ويؤكد الباحث أن هذه الفئة من الأشخاص كانت مستهدفة على نطاق واسع قبيل وأثناء دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024، التي شكلت مناسبة لتوسيع نطاق استخدام الإجراءات الإدارية وتوسيع دائرة الفئات المستهدفة بها. 

ويستشهد الباحث بتقرير برلماني حول حصيلة الألعاب الأولمبية والبارالمبية في المجال الأمني، الذي أشار إلى تنفيذ 626 زيارة منزلية و547 إجراء ميكا تم الإخطار بها لتنفيذها خلال الفترة الأولمبية، أي بمستوى أعلى بأربع إلى خمس مرات من المتوسط السنوي المسجل منذ عام 2017. 

هذه الإجراءات كان لها أثر سلبي ملموس على الأشخاص المعنيين بها، إذ يجدون أنفسهم عاجزين عن الذهاب إلى عملهم، ما يعرضهم لخطر فقدان وظائفهم ومصادر دخلهم.  منذ عام 2017، صدرت قوانين أخرى عززت الترسانة القانونية ووسائل أجهزة الاستخبارات وقوات الأمن في مكافحة الإرهاب، بدون الحديث عن حالة الطوارئ الصحية التي فرضت عام 2020 خلال جائحة كوفيد-19. وقد شكلت جميعها خطوات إضافية في تراجع الحريات الفردية. 

من بين هذه القوانين، قانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية الصادر في 24 آب/أغسطس 2021، الذي يلزم الجمعيات التي تتلقى إعانات عامة بتوقيع عقد التزام جمهوري، وقانون المسؤولية الجنائية والأمن الداخلي الصادر في 24 كانون الثاني/يناير 2022، الذي يجيز استخدام الطائرات المسيرة لأغراض المراقبة، إضافة إلى قانون الألعاب الأولمبية والبارالمبية 2024 الصادر في 19 أيار/مايو 2023، الذي سمح، على سبيل التجربة حتى 31 آذار/مارس 2025، باستخدام أنظمة المراقبة بالفيديو القائمة على الخوارزميات. 

تقول رئيسة رابطة حقوق الإنسان بأسف يقال في البداية إن الأمر مؤقت وتجريبي، ثم يصبح عادة. إنها دوامة من القمع لا تنتهي أبدا. نريد طائرات مسيرة، وذكاء اصطناعيا، وتقنيات للتعرف على الوجوه… لطالما أشرنا إلى الصين وقلنا إنها ديكتاتورية، لكننا نجد أنفسنا اليوم نفعل الشيء نفسه. 

من جهتها، تؤكد السلطة التنفيذية على ضرورة هذه الإجراءات لضمان فعالية مكافحة الإرهاب، الذي تبقى مستوياته مقلقة بحسب أجهزة الاستخبارات. وقد كشف مدير قسم مكافحة الإرهاب في المديرية العامة للأمن الداخلي، في شباط/فبراير 2025، أنه تم إحباط 79 مشروع هجوم في فرنسا منذ عام 2015. 

أوضح نيكولا كلوصر قائلا إنها الخطابات المعتادة لوزارة الداخلية. فهذه التدابير كانت تقدم في البداية على أنها تهدف إلى رفع الشبهات، لكن الواقع يظهر أن الأشخاص المستهدفين غالبا ما يبتعدون كثيرا عن الصورة النمطية لمن يستعد لتنفيذ عمل إرهابي وشيك. إن وجود مثل هذه الإجراءات الإدارية يربك الحدود التقليدية بين القانون الإداري والقانون الجنائي. ولشل ما تعتبره الدولة أعداءها الداخليين، فهي تستلهم الآليات ذاتها التي كانت تستخدم في المستعمرات أو في قانون الأجانب. 

ويحذر كلوصر من الخطر المستقبلي المتمثل في احتمال أن تسعى حكومة يمينية متطرفة إلى توسيع نطاق الأشخاص المستهدفين بهذه الإجراءات أكثر فأكثر. 

فما وراء الإجراءات الإدارية التي تستهدف أشخاصا بعينهم، هناك منظومة أمنية متكاملة ترسخت تدريجيا في فرنسا. إذ يستخدم المحافظون ما يعرف بنطاقات الحماية لإبعاد المتظاهرين، كما حدث خلال تحركات “قرع الطناجر” أثناء تنقلات الرئيس إيمانويل ماكرون خلال احتجاجات إصلاح نظام التقاعد في ربيع 2023. 

وتحذر ناتالي تيو قائلة الخطر هو أن نعتاد على فقدان الحريات، وعلى المراقبة، وعلى دولة تزداد سلطويتها يوما بعد يوم. إنها انحراف مستمر يؤدي إلى تحطيم كل أشكال التوازن والرقابة المتبادلة. كثير من الناس أصبحوا يعزفون عن التظاهر، والأمر نفسه ينطبق على الجمعيات. نحن بصدد تفريغ ديمقراطيتنا من روحها الحية. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *