باولو فونتاني مدير مكتب اليونسكو الاقليمي: 30 مليون طفل عربي خارج المدرسة

تواجه أنظمة التعليم في الشرق الأوسط واحدة من أصعب المراحل في تاريخها الحديث، فبين الحروب والنزاعات والانهيارات الاقتصادية وتداعيات جائحة “كورونا” بات ملايين الأطفال خارج المدارس، فيما يواجه المعلمون والإدارات التربوية صراعاً يومياً للحفاظ على ما تبقى من مقومات التعليم.

في قطاع غزة، دمرت الغارات الإسرائيلية عشرات المدارس والجامعات، وتعطل التعليم كلياً مع نزوح مئات آلاف الطلبة والمعلمين، وتحولت الفصول الدراسية إلى ملاجئ، فيما تعمل المنظمات الدولية على توفير بدائل موقتة للتعلم في ظل أزمة إنسانية غير مسبوقة. أما في سوريا، فبعد أكثر من 13 عاماً على اندلاع الحرب وتغيير النظام قبل نحو سنة، ما زال النظام التعليمي يعاني التشتت ونقص الكوادر والمناهج المحدثة، إذ خسر ملايين من الأطفال سنوات من التعليم، بسبب النزوح والدمار وغياب البنية التحتية.

وفي لبنان، وناهيك بتبعات الحرب الأخيرة قبل سنتين، تتعمق الأزمة التربوية مع الانهيار الاقتصادي والمالي، الذي انعكس مباشرة على رواتب المعلمين وتمويل المدارس الرسمية. ومع هجرة آلاف المعلمين إلى الخارج بحثاً عن ظروف معيشية أفضل، وجد أكثر من نصف طلاب البلاد أنفسهم أمام أعوام دراسية متعثرة، بينما تحاول المدارس الخاصة الصمود وسط أعباء مالية متزايدة.

في مواجهة هذا المشهد المضطرب، تواصل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) أداء دورها المحوري في دعم التعليم في المنطقة، سواء عبر برامج الطوارئ والاستجابة السريعة، أم من خلال خطط إعادة بناء الأنظمة التعليمية وتعزيز المهارات الرقمية والتعليم الشامل.

ولفهم أعمق لواقع التعليم في الشرق الأوسط في ظل الأزمات الممتدة ومستقبل التعليم في مجتمعات تعاني الحرب والفقر والنزوح، حاورت “اندبندنت عربية” مدير مكتب “اليونيسكو” الإقليمي في بيروت وممثل المنظمة في لبنان وسوريا باولو فونتاني، ومعه كان عرض للتحديات التي تواجهها المنظمة، كما ورؤيتها لإنقاذ حق التعليم كأولوية إنسانية لا تقل أهمية عن الغذاء والأمن.

نسأله بداية عن وضع التعليم في منطقة الشرق الأوسط بصورة عامة بعد الفترة الأخيرة وما شهدته من حروب ونزاعات، فيقول “يقف قطاع التعليم في المنطقة العربية اليوم عند مفترق طرق، تتجلى فيه قدرة لافتة على الصمود، لكنها تقترن أيضاً بقدر كبير من الهشاشة. فالعقود الطويلة من عدم الاستقرار السياسي واستمرار النزاعات والنزوح الواسع والأزمات الاقتصادية، جعلت من التعليم في العالم العربي واحدة من أكثر حالات الطوارئ التعليمية تعقيداً في العالم”.

أما التحديات الأساسية التي يواجهها هذا القطاع راهناً، فهي تدمير المدارس وازدياد أعداد الأطفال والشباب خارج التعليم، وإنهاك الكوادر التعليمية، وازدحام الصفوف الدراسية، وتراجع مستويات التعلم بصورة حادة، واتساع الفجوات التعليمية، خصوصاً بالنسبة إلى الفتيات والأطفال النازحين.

الواقع السلبي هذا لا يعني اليأس، إذ يشدد فونتاني على أن التعليم أصبح شريان الحياة في المنطقة، ومجالاً للحماية والأمل والانتماء في قلب الاضطراب، حتى في أكثر السياقات قسوة مثل غزة واليمن وسوريا، لا تزال أنشطة التعليم تنفذ عبر وسائل متعددة.

ويكشف عن أن منظمة “اليونسكو” ستطلق خلال الشهر الجاري “استراتيجية التعليم في حالات الطوارئ للمنطقة العربية”، التي تستند إلى الدروس المستخلصة من تدخلات المنظمة الجارية في سياقات الأزمات مثل سوريا واليمن والسودان ولبنان وفلسطين، وتهدف هذه الاستراتيجية إلى أن تكون خريطة طريق لبناء أنظمة تعليمية مرنة وشاملة ومهيأة للمستقبل، تضمن حصول كل متعلم على تعليم آمن وجيد حتى في أصعب الظروف.

حتى مطلع عام 2025، كان هناك أكثر من 30 مليون طفل في المنطقة العربية خارج المدرسة، يكشف فونتاني، فيما تعمل “اليونيسكو” على تكثيف جهودها لعكس هذا الاتجاه، من خلال الاستراتيجية الجديدة للتعليم في حالات الطوارئ، التي تهدف إلى إعادة دمج المتعلمين وتعزيز قدرة الأنظمة التعليمية على الصمود.

ويضيف “جعل التعليم قادراً على الصمود يعني ضمان استمرار التعلم في كل الظروف، أثناء الحرب، أو الأزمات الاقتصادية، أو حتى عندما تدمر المدارس. والصمود لا يعني فقط إعادة بناء البنى التحتية، بل يشمل تعزيز الأنظمة التعليمية، وتمكين المعلمين، ودعم المجتمعات على التكيف والتعافي”. ومن هنا يشدد على دورهم في العمل مع الحكومات والشركاء لجعل الأنظمة التعليمية وقائية واستجابية في أوقات الأزمات، ودعم الدول الأعضاء في اعتماد إعلان المدارس الآمنة، والتخطيط لحالات الطوارئ، وبناء أنظمة تعلم مرنة، من الدروس الإذاعية إلى التعليم الرقمي. وتشمل المساعدة أيضاً تخطيط القطاع التعليمي، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتطوير المعلمين، وتحسين أنظمة البيانات لضمان المساءلة والعدالة.

ويقول “بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، أسهمت المنظمة في ترميم المدارس المتضررة، وتقديم الدعم النفسي الاجتماعي، وتطبيق حلول تعليم مرنة. وفي مدينة الموصل العراقية، أعيد تأهيل المدارس، وتدرب المعلمون على أساليب التعليم الحساسة للصدمات، وتم إدخال برامج تعلم معجل للأطفال النازحين”.

تعكس أولويات “اليونيسكو” في المنطقة العربية ثراء تراثها الثقافي من جهة، والتحديات الناتجة من سنوات من الصراع والنزوح وعدم الاستقرار من جهة أخرى. وتتمثل مهمة المنظمة في جعل التعليم والثقافة والعلوم والاتصال ركائز للتعافي والسلام، فيما يظل التعليم الأولوية الأكثر إلحاحاً، لذلك تركز على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب والمعلمين، وإعادة تأهيل المدارس بتصاميم أكثر أماناً واستدامة وشمولاً، وتدريب المعلمين على التعليم الحساس للأزمات والدعم النفسي والمهارات الرقمية، وتوسيع نطاق حلول التعليم البديلة والرقمية وتعزيز أنظمة البيانات التعليمية لدعم صنع القرار القائم على الأدلة.

ويكشف مدير مكتب “اليونسكو” الإقليمي في بيروت عن أن فجوة جودة التعليم اتسعت بين المنطقة العربية والمعايير العالمية بصورة كبيرة خلال العقد الأخير، بسبب الحروب الطويلة والأزمات الاقتصادية والتفاوت في التعافي. ففي دول مثل سوريا واليمن والسودان، فقد ملايين الأطفال سنوات من التعليم، وانخفضت مستويات القراءة والكتابة والحساب إلى ما دون المعدلات العالمية.

ولا تقتصر الأزمة على الوصول إلى التعليم، بل تشمل الجودة والإنصاف، فقد أضعف الانهيار الاقتصادي أجور المعلمين وموارد المدارس، فيما عمقت الفجوة الرقمية التفاوت بين المناطق الحضرية والريفية، وبين التعليم العام والخاص. في المقابل، تتقدم بعض دول الخليج بخطوات سريعة نحو التعليم الحديث والرقمي، إذ يتعلم بعض الطلاب الذكاء الاصطناعي والروبوتات.  

نتوقف مطولاً في حوارنا مع فونتاني عند الوضع في قطاع غزة بعد سنتين من حرب قاسية خلفت عشرات آلاف القتلى، جزء كبير منهم من الأطفال، ليكشف لنا عن أن “التعليم النظامي في غزة انهار بالكامل، فجميع المدارس مغلقة، مما ترك أكثر من 658 ألف طفل من دون تعليم يومي. فيما تضررت معظم المباني التعليمية، وهي اليوم بحاجة إلى إعادة بناء شاملة”.

وعلى رغم ذلك وصعوبة الوضع، لكن التعليم لم يختف تماماً، فقد أنشأت “اليونسكو” ما يعرف بـ”مساحات التعلم الموقتة” لتوفير فرص تعليم ودعم نفسي للشباب، وهذه المراكز كانت قائمة حتى سبتمبر (أيلول) 2025، إذ ما زال نحو 297 مركزاً منها يعمل، ويخدم نحو 112 ألف طالب.

وفي السياق أكد دعم المنظمة التخطيط لقطاعي التعليم والتعليم العالي، وتطوير استراتيجية للتعليم عن بعد، وإعداد خطة وطنية لتعويض الفاقد التعليمي لمساعدة الأطفال في تجاوز آثار الانقطاع والعودة للمسار الدراسي بثقة. 

“العواقب على المجتمع الفلسطيني خطرة للغاية، ففقدان عامين دراسيين كاملين لمئات الآلاف من الأطفال، إلى جانب انهيار التعليم العالي لنحو 88 ألف طالب جامعي، يهدد رأس المال البشري على المدى الطويل”، يقول فونتاني ويؤكد أنه من دون تحرك عاجل، تواجه غزة خطر نشوء جيل يفتقر إلى المهارات الأساسية، ويعجز عن اجتياز الامتحانات أو التخرج، مما يقوض فرص التعافي الاقتصادي والخدمات الأساسية والاستقرار الاجتماعي. 

ويكشف عن أن “اليونيسكو” استجابت لهذه الفجوة عبر مشروع “الحرم الجامعي الافتراضي في غزة”، الذي يهدف إلى إنشاء نظام وطني آمن للتعليم العالي الرقمي يدار من مدينة رام الله، يمكن الطلبة من البقاء مسجلين في جامعاتهم ومتابعة برامجهم المعتمدة عبر الإنترنت، وتشمل المرحلة الأولى أربع جامعات، مع توقع تسجيل 20 ألف طالب بنهاية عام 2025، إلى جانب توفير مساحات تعلم موقتة لنحو 10 آلاف طالب جامعي في كل موقع. 

عن عودة الأطفال للمدارس يقول إنها لن تكون فورية، إذ إن نحو 95 في المئة المدارس متضررة أو مدمرة، وإعادة بنائها ستستغرق أشهراً وربما سنوات، لكن الأهم هو التعافي الإنساني. فقد عانى الأطفال والمعلمون الصدمات والنزوح والفقد، فيما تعمل المنظمة مع وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية على تطوير سياسة وطنية لتعويض الفاقد التعليمي والتعافي، تشمل برامج تعلم معجلة وأدوات لدعم المعلمين في إعادة بناء المهارات الأساسية.   

هذا ويقدر الخبراء أن عملية التعافي ستستغرق عدداً من السنوات الدراسية حتى في أفضل الظروف، وتتطلب استثماراً مستمراً ودعماً طويل الأمد. 

ويكشف بالأرقام أن أكثر من 430 مدرسة، أي أكثر من 75 في المئة من المنشآت التعليمية تعرضت لضربات مباشرة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وعلى جميع المستويات، من رياض الأطفال إلى الجامعات، تم تدمير أو تضرر أكثر من 2300 منشأة تعليمية.

يقول فونتاني إنه خلال أحداث سبتمبر 2024، أي حين اشتدت الحرب الإسرائيلية الأخيرة، تأثر أكثر من 1.5 مليون طالب في مختلف أنحاء لبنان بتوقف التعليم على مستوى البلاد. وجاء الانقطاع بالتزامن مع بداية العام الدراسي، مما أدى إلى تعطيل الدراسة لمدة 40 يوماً، وقد تم تحويل أكثر من 600 مدرسة ومؤسسة تعليمية رسمية إلى مراكز إيواء للنازحين داخلياً. كما تعرضت 40 مؤسسة تعليمية عامة لأضرار جسيمة، بينها 22 مدرسة ومركزاً للتدريب المهني والتقني دمرت بالكامل.

ويشدد على أن الإصلاح التدريجي ضروري لأنه يسمح بالبناء على الجهود القائمة بدلاً من البدء من الصفر، فيما مبادرات مثل تحسين استخدام الموارد وإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتعليم الرقمي تشكل بالفعل أرضية لإصلاحات أوسع في مجالات تطوير المعلمين والبنية التحتية وتحديث المناهج. ومن خلال الاستمرار في هذه الجهود وتوسيعها، يمكن للبنان تحقيق تغيير ملموس مع الحفاظ على استقرار القطاع واستمراريته.  

نسأله عن سوريا “هل من الممكن إعادة بناء نظام تعليمي حديث ومواكب للمستقبل في البلاد؟”، فيجيب “نعم، من الممكن إعادة بناء نظام التعليم في سوريا، لكن ذلك يتطلب عملاً منسقاً وجهداً جماعياً”، فيما تعمل  “اليونيسكو” على ترميم المدارس المتضررة، وتدريب المعلمين، وتهيئة بيئات تعليمية أكثر أماناً وشمولاً. ويكشف عن أن هناك نحو 2.5 مليون طفل سوري خارج المدارس، وأكثر من مليون طفل مهددون بالتسرب.

وعن الخطوات التي يقومون بها في الإطار، يقول إنهم يستهدفون الأطفال الأصغر سناً عبر برامج التعلم المعجل التي تعيد بناء المهارات الأساسية والثقة بالنفس. أما الشباب الأكبر سناً، فتقدم لهم برامج تدريب مهني في مجالات مثل النجارة، وتكنولوجيا المعلومات، والزراعة، وريادة الأعمال، إضافة إلى مبادرات العمل في مقابل الأجر ودعم المشاريع الشبابية.

كما تروج المنظمة للتعلم الرقمي وتدرب المعلمين على استقبال طلاب من مختلف الأعمار ممن يعانون آثار الحرب، ومن خلال هذه الجهود تعمل “اليونيسكو” على تحويل جيل مفقود إلى جيل متعلم قادر على إعادة بناء سوريا.

عن إصلاح المناهج في سوريا، يشدد على أن هذا الأمر عنصر أساس في إعادة بناء النظام التعليمي، مؤكداً دعمهم تطوير مناهج جديدة تعكس قيم السلام والمساواة بين الجنسين وحقوق الطفل والتماسك الاجتماعي، وتشمل مقاربات تراعي الحساسية تجاه الصراع، وعملهم مع الشركاء على مراقبة العملية وضمان شمولية الحوار، بما يجعل التعليم وسيلة لإعادة بناء الثقة والهوية المشتركة وليس ساحة للانقسام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *