
إبان سقوط الأسد، ظهرت معضلة المقاتلين الأجانب ومصيرهم، لا سيما الفصائل التي قاتلت إلى جانب “هيئة تحرير الشام” التي تزعمها الرئيس السوري أحمد الشرع قبل أن يتسلم مقاليد الحكم ويترأس حكومة انتقالية في دمشق وعمله على تشكيل جيش وطني واحد بعد حلّ كافة الفصائل المحلية أو الأجنبية ودمجها، في الوقت ذاته أعطت الولايات المتحدة موافقتها على دمج هؤلاء المقاتلين في الجيش بفرقة واحدة هي الفرقة 84 التي تتمركز في وسط البلاد، وهي مجهزة ومدربة على مقاتلة فلول تنظيم “داعش” في البادية.
طوى الاتفاق الذي توصلت إليه الحكومة السورية مع مجموعات أجنبية مقاتلة صفحة الاشتباكات المندلعة خلال اليومين الماضين، وهي أول معركة احتدمت بين فصيل من المقاتلين الأجانب والقوات الحكومية في إدلب، شمال غربي البلاد، بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، وفتحت الباب أمام تساؤلات حول مستقبل الآلاف من هؤلاء في سوريا الجديدة.
ونفض “مخيم الفرنسيين” الواقع في مدينة حارم في ريف إدلب الشمالي، غبار المعركة، بينما ما زال يتحصن زعيم المجموعة المعروفة باسم “فرقة الغرباء” عمر أومسين (فرنسي الجنسية من أصول سنغالية) مع عشرات المقاتلين الفرنسيين في المنطقة ذاتها داخل المخيم مستفيداً وعناصره من وجود مدنيين كدروع بشرية.
الاتفاق الأخير أفضى إلى سحب الأسلحة الثقيلة من محيط المخيم، وفتح الطريق أمام الحكومة لدخوله، وإحالة قضية خطف فتاة وطلب فدية مالية من والدتها (الحادثة التي أشعلت فتيل المواجهات) إلى وزارة العدل، وتكليف 3 متشددين أجانب من آسيا الوسطى لمتابعة ملف أوميسن المعروف أيضاً بـ “عمر ديابي”.
في غضون ذلك، لا يخفي الباحث بقضايا الجماعات الإسلامية، عبد الغني مزوز ما ينطوي على ملف المقاتلين الأجانب في سوريا من التعقيد، إذ لا أحد يدري إلى أي مدى يستطيعون قبول القرارات الحكومية، وتطورات الداخل السوري، إضافة إلى تباين مواقف كتل المهاجرين، وتراوح قناعاتهم بين الاعتدال والتشدد، علاوةً عن تحفظ شرائح منهم على السياسات الخارجية والداخلية للسلطة الجديدة.
وأضاف أن “مجموعة من العوامل يُتوقع أن تسهم في تحديد مواقف المتشددين في المرحلة المقبلة ويتعلق أكثرها ببعض القرارات المثيرة للجدل التي اتخذتها الحكومة، والتي استغلتها المنصات المتشددة الرقمية في الدفع بتشكيل رأي عام متشدد مناهض للحكومة، ووصمها بالانحراف والردة”.
ويرى الباحث السياسي أنه “من أبرز هذه القرارات على سبيل المثال قرار وزارة الأوقاف حظر تناول بعض المواضيع العقدية في خطب الجمعة، وما أشاعته بعض القنوات المتشددة من تعويض ساعات التربية الإسلامية بحصص الموسيقى في المدارس، والهجوم على مخيمات المقاتلين الأجانب كما حدث مع مجموعة عمر أومسين الفرنسية في حارم، وما استتبعه ذلك من استنفار بين بعض المجموعات الأجنبية الأخرى التي استنكرت الهجوم لا سيما الأوزبك، والعمليات الأمنية ضد خلايا ’داعش‘ التي يتم تنفيذها بتنسيق مع التحالف الدولي وهو ما يعتبره بعض المتشددين ’موالاة مكفرة‘ تدخل ضمن نواقض الإسلام العشرة”.
وتابع، “هذه التطورات تشكل الآن مادة دسمة في المنصات المتشددة يتم تداولها، وتُبنى عليها المواقف الشرعية، وعلى أساسها يخرج سيل من التحريض على حكومة أحمد الشرع وتجريدها من الشرعية الدينية، وإخراجها من دائرة الإسلام”.
في المقابل يشير الناشط الحقوقي، أحمد الحوراني إلى “وجود فصائل ومقاتلين لم يذعنوا إلى قرار الدمج، ومنهم ’فرقة الغرباء‘ التي تُعتبَر خارج القانون وترفع حول مخيم الفرنسيين سواتر إسمنتية، وتمسك بقاطني المخيم كرهينة ودروع بشرية، وتفرض تعاليم متشددة على الأطفال، فضلاً عن كون هذه الفصائل جاءت من خلفية تتشرب تعاليم ’داعش‘”. وأردف، “ما يعزز فرضية فشل الاندماج بالنسبة لعدد من الفصائل هي أحداث مخيم الفرنسيين المحاذي للشريط الحدودي مع تركيا، مع انضمام المقاتلين الأوزبك للوقوف بوجه الحكومة السورية. ولعل انتهاء الأزمة في زمن قياسي كبح جماح التجييش الإعلامي للمتشددين الأجانب، فمن الوارد أن تنتفض فصائل عدة وتتسع رقعة الاشتباكات”.
وتقاطر المقاتلون الأجانب بالآلاف من أنحاء العالم مع اشتداد الصراع المسلح في سوريا في عام 2011، شكل بعضهم مجموعات وفصائل لمقاتلة نظام الأسد في ذلك الوقت، بينما فضّل آخرون الانضمام لتنظيم “داعش” (2014 – 2019)؟ ومع ذلك عُرف عن تلك المجموعات انضباطها واستبسالها في القتال والولاء المطلق لزعماء أو أمراء الفصائل.
لا توجد إحصائية واضحة لعدد المتشددين الأجانب ولكن عددهم تناقص بالتأكيد لأسباب عدة منها عبورهم إلى بلدان عربية وأجنبية تخوض نزاعات. وكُشف عن إحصائية حديثة لعدد المقاتلين الأجانب تتراوح بين 5 و 7 آلاف مقاتل، منهم حزب العمال التركستاني الأويغور (2500 إلى 3 آلاف مقاتل)، وتنظيم “حراس الدين” (800 إلى 1000 مقاتل)، أما فرقة الغرباء من طاجيك وأويغور وأوزبك (400 إلى 500 عنصر)، أما “أجناد القوقاز” أو “مجاهدي الشيشان” (300 عنصر)، ومهاجرو السنة الإيرانيون (200 عنصر)، و”أنصار التوحيد” (200 مقاتل).
قال المبعوث الأميركي، توم براك إن واشنطن وافقت على خطة تسمح باندماج المقاتلين الأجانب للجيش الوطني، شريطة أن يحدث ذلك بشفافية (اندبندنت عربية)
على صعيد متصل، يقبع بالاحتجاز نحو 26 ألف مقاتل أجنبي من “داعش” في شمال شرقي سوريا، في وقت يثير أي توتر بالمنطقة هناك مخاوف من فرار هذه قيادات. في المقابل يُرجح مع التقارب السوري- الأميركي، وقرب التوصل إلى اتفاق بين دمشق وقوات “قسد”، تسليم ملف السجناء إلى الحكومة السورية وبالتالي ستزيد الأعباء للتعامل مع هذا العدد، فهل سيبقون في سوريا أم ستحصل دمشق على موافقة الدول التي ينتمي إليها هؤلاء على عودتهم إلى ديارهم؟
إلى ذلك، وبالحديث عن الفصائل الأجنبية الحاضرة على الأرض يستبعد الباحث مزوز في الوقت الراهن أن تشكل هذه المجموعات تحدياً وجودياً للحكومة السورية، إذ إن النسبة الكبرى من العناصر ذات الميول المتشددة ما زالت تثق بالشرع، ويتمتع هذا الأخير بولائها المطلق، “وهي لا تريد أن تكرر تجربة ’داعش‘ في إشاعة لغة التكفير وتبني الخطاب ذاته الذي تبنته الأخيرة وتروج له في منشوراتها، لكن السؤال المطروح الآن: إلى أي مدى يمكن للمتشددين العيش في كنف دولة تتبنى قيم التعايش والمواطنة والحداثة المؤسساتية”.
