
يبدو أن روسيا قد رُدعت بفعل الرد الحازم من الناتو خلال سبتمبر 2025 على التوغلات في المجال الجوي لبولندا وإستونيا، لكن من المتوقع أن تواصل موسكو اختبار الحدود، بحسب ما قاله الجنرال الأمريكي الذي يشغل منصب القائد الأعلى لقوات الحلف في أوروبا في 21 أكتوبر 2025. ففي 19 سبتمبر 2025، انتهكت ثلاث طائرات عسكرية روسية المجال الجوي لإستونيا لمدة 12 دقيقة.
وقد أرسل الناتو مقاتلاته لاعتراضها وإخراجها من الأجواء، فيما تعهدت واشنطن بـ”الدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو”. وقبل ذلك، دخل أكثر من 20 طائرة مسيّرة روسية المجال الجوي لبولندا، وأسقطت مقاتلات الناتو بعضها، في أول مرة يطلق فيها عضو في الحلف النار على أهداف روسية منذ بداية حرب أوكرانيا في فبراير 2022. يقول أليكسوس غرينكويتش، الجنرال في سلاح الجو الأمريكي والقائد الأعلى لقوات الحلف في أوروبا: “إن ردود الناتو أوصلت رسالة واضحة إلى موسكو”.
مؤشرات على أن روسيا أصبحت “أكثر حذرًا”
أضاف غرينكويتش: “نرى مؤشرات على أن الروس يحاولون أن يكونوا أكثر حذرًا، وأنهم أدركوا أنهم اقتربوا أو تجاوزوا الخط في بعض الحالات، خصوصًا عندما نأخذ في الاعتبار حادثة الطائرات المسيّرة في بولندا”. تابع غرينكويتش: “سيكون لذلك تأثير ردعي، لكنهم سيواصلون التحرك ومحاولة استخدام أساليب هجينة في تحديهم للحلف”. في حادثة إستونيا، نفت وزارة الدفاع الروسية أن تكون طائراتها قد انتهكت المجال الجوي الإستوني، وأكدت إنها كانت تحلّق فوق المياه الدولية. أما في الحادثة البولندية، اكدت موسكو إن طائراتها المسيّرة كانت تنفّذ ضربات داخل أوكرانيا ولم تستهدف بولندا.
أشار غرينكويتش إلى: “أنه بعد مغادرة الطائرات الروسية المجال الجوي الإستوني حلّقت في مسار واسع حول إستونيا”، مضيفًا: “بالنسبة لي، هذا يدل على أنهم فهموا أننا سنرد، وأننا قادرون على الرد، وأنهم لا يريدون تكرار الموقف نفسه”. ومع تصاعد الهجمات الروسية بالطائرات المسيّرة والصواريخ التي تستهدف المدن والبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا مع اقتراب فصل الشتاء، قال غرينكويتش: “إن الولايات المتحدة ستواصل تزويد كييف بأنظمة صواريخ باتريوت بمعدل يلبي احتياجاتها”.
يعتقد المسؤولون الأوروبيون أن روسيا متورطة على الأرجح في موجة التوغلات بالطائرات المسيّرة خلال سبتمبر وأكتوبر 2025، بما في ذلك تلك التي تسببت في اضطرابات كبيرة في مطارات الدنمارك والنرويج. كما رُصدت طائرات مسيّرة فوق حقول النفط في بحر الشمال التابعة للدنمارك في سبتمبر 2025، وتسببت في تعطيل تدريبات عسكرية هولندية في بولندا. ومنذ أول توغل للطائرات الروسية المسيّرة في بولندا في التاسع من سبتمبر 2025، سجلت دول الناتو في شمال أوروبا ما لا يقل عن 38 حادثة أخرى شملت الدول الإسكندنافية وبلجيكا ودول البلطيق، وفقًا لمركز تحليل السياسات الأوروبية في واشنطن. وقد نفت روسيا مرارًا أي صلة لها بهذه الحوادث.
يقول رئيس هيئة الدفاع الهولندية الجنرال أونو إيخيلسهايم: “إن الناتو سيرد على أي توغل روسي في أراضيه سواء كان مقصودًا أو عرضيًا، مشيرًا إلى أن الحلف يعمل مع أوكرانيا لمواجهة هذه التهديدات”. وأضاف إيخيلسهايم بعد اجتماعه مع غرينكويتش: “الشيء الجيد هو أن الأوكرانيين ينتجون الكثير من قدرات الدفاع ضد الطائرات المسيّرة بأنفسهم، وما علينا فعله هو منحهم التمويل لإنتاج المزيد”.
تأتي هذه التصريحات بعد اقتراح قدمته المفوضية الأوروبية خلال أكتوبر 2025 لإطلاق 4 مشاريع دفاعية كبرى، من بينها نظام لمكافحة الطائرات المسيّرة وخطة لتحصين الحدود الشرقية، في إطار جهود إعداد القارة للدفاع عن نفسها بحلول عام 2030. تعكس “خريطة الطريق” الدفاعية الأوروبية المخاوف المتزايدة التي أثارتها الحرب في أوكرانيا، والتي دخلت عامها الرابع، من احتمال أن تشن روسيا هجومًا على إحدى دول الاتحاد الأوروبي في السنوات المقبلة، إضافة إلى دعوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأوروبا لبذل المزيد من الجهود لضمان أمنها الذاتي.
تُظهر الانتهاكات الروسية الأخيرة في أجواء دول البلطيق وبولندا أن العلاقة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) دخلت مرحلة جديدة من “الردع المحسوب” الذي يوازن بين تجنّب التصعيد العسكري المباشر والحفاظ على مصداقية الردع الجماعي للحلف. فالتعامل السريع والحازم من جانب الناتو في سبتمبر 2025، سواء من خلال اعتراض المقاتلات الروسية أو إسقاط الطائرات المسيّرة، مثّل أول اختبار عملي منذ حرب أوكرانيا في فبراير 2022 لمدى استعداد الحلف لاستخدام القوة دفاعًا عن أعضائه، حتى وإن كان ذلك في إطار محدود.
تقييمًا للوضع، يمكن القول إن الحوادث الجوية الأخيرة تعكس تحوّلًا في أساليب المواجهة الروسية نحو “الاختبار المرن” لردود الحلف، عبر توغلات قصيرة أو غامضة قانونيًا، لتقييم مدى التزام الناتو بخطوطه الحمراء. لكن في المقابل، أظهرت استجابة الناتو، بقيادة الجنرال أليكسوس غرينكويتش، أن أي تجاوز جوي أو هجومي سيقابل بعمل مباشر، ما دفع موسكو إلى إعادة حساباتها مؤقتًا. ومع ذلك، يبقى هذا الردع هشًّا؛ لأن طبيعة “التهديدات الهجينة” التي تتحدث عنها القيادة الأطلسية تتيح لروسيا الاستمرار في المناورة من دون بلوغ عتبة الحرب المفتوحة.
على المدى القريب، يُتوقع أن تواصل روسيا استخدام الطائرات المسيّرة كأداة استراتيجية مزدوجة: لاختبار الدفاعات الأوروبية من جهة، ولرصد القدرات العسكرية والبنى التحتية الحيوية في بحر الشمال والبلطيق من جهة أخرى. ومن المرجّح أن تزيد موسكو من عملياتها غير المنسوبة رسميًا لتفادي العقوبات المباشرة أو الردود الصريحة من الناتو. في المقابل، سيكثف الحلف جهوده لتنسيق أنظمة الدفاع الجوي والطائرات المسيّرة المضادة، خصوصًا مع انخراط الاتحاد الأوروبي في مشاريع دفاعية مشتركة حتى عام 2030.
أما على المدى المتوسط، فإن تصاعد الحوادث الجوية سيعزز الوعي الأوروبي بأهمية الاستقلال الدفاعي، لا سيما في ظل ضغوط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لخفض المساهمات الأمريكية في أمن القارة. وقد يشكّل هذا التحول لحظة مفصلية في تطور “الركيزة الدفاعية الأوروبية”، لتتحول من مجرد فكرة تكاملية إلى إطار عملي لمواجهة التهديدات الروسية والهجينة.
يبدو أن الردع المتبادل بين الناتو وروسيا سيبقى قائمًا، لكن في بيئة يسودها “التوتر الموزون”، حيث تُختبر حدود القوة والإرادة السياسية من الجانبين بشكل مستمر. التحدي الأكبر مستقبلاً هو منع أي خطأ في التقدير من أن يتحول إلى مواجهة مباشرة لا يريدها أحد، لكنها تظل ممكنة في أي لحظة.
المصدر: المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ـ ألمانيا وهولندا ECCI
