
يحتل ملف الإخوان في ألمانيا مكانة مُثيرة للجدل داخل النقاشات الأوروبية بشأن الإسلام السياسي، حيث تتداخل الأبعاد الدعوية والاجتماعية مع أبعاد تنظيمية وأمنية معقدة، فرغم تقديم الجماعة نفسها في صورة قانونية وعلنية، تكشف تقارير أمنية وبحثية عن شبكات أوسع تعمل خلف الواجهة، بقيادة شخصيات ذات أدوار متعددة.
ويشير تقرير المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات إلى أن دراسة القيادات الحالية للجماعة في ألمانيا تعد مدخلًا أساسيًا لفهم مستقبل التنظيم في الغرب، إذ أن هذه القيادات لا تمثل فقط واجهة شرعية، بل تشكل حلقة وصل مع التنظيم الدولي، وتلعب دورًا محوريًا في استمرار النفوذ رغم الضغوط الأمنية والسياسية.
برز اسم إبراهيم الزيات كأحد أكثر الشخصيات ارتباطًا بالإخوان المسلمين في أوروبا، حتى وصفته هيئة حماية الدستور الألمانية بأنه “مهندس الشبكات الإسلامية”. وبحسب تقرير المركز الأوروبي، الخميس 25 سبتمبر 2025، استخدم الزيات خبراته في الإدارة والتمويل لبناء شبكة مؤسسات قانونية الشكل، لكنها متصلة بخطاب الجماعة الأم. ورغم حرصه على الظهور كفاعل قانوني، يؤكد المراقبون أن أنشطته تخدم النفوذ المستتر للإخوان.
أما حمد طه صبري، فهو إمام مسجد السلام في برلين وأحد كوادر “المركز الثقافي للحوار”، بينما لعب خضر عبد المعطي دورًا مهمًا على المستوى الدولي، إذ تولى منصب المنسق العام للمجلس الأوروبي للأئمة والوعاظ. كذلك، يشير التقرير إلى أن شخصيات مثل فريد حيدر وخالد صديق تستقطب شباب الجاليات المسلمة واللاجئين، فيما ركز جعفر عبدالسلام على مركز “الرسالة” لتعزيز نفوذ الجماعة عبر الأنشطة التعليمية.
لا يقتصر الحضور على القيادات الذكورية، بل يبرز دور النساء في ترسيخ الإخوان في ألمانيا. إذ تعد رشيدة النقزي من أبرز الوجوه النسائية للجماعة في أوروبا، حيث ترأس قسم المرأة باتحاد المنظمات الإسلامية، ولفت الباحث في شؤون التنظيمات الإسلامية، كارستن فريرك، إلى أن ليديا نوفل، اخترقت الحزب الاشتراكي الديمقراطي عبر تأسيس مجموعة عمل إسلامية داخله.
كذلك، برزت نينا موهي كوجه نسائي آخر، حيث أسست منظمة “كليم” التي تستخدمها الجماعة، بحسب المركز الأوروبي، في مهاجمة المنتقدين وشيطنة مواقفهم، إضافة إلى الضغط على الحكومة الألمانية عبر خطاب المظلومية والادعاء بالتعرض للعنصرية، ما يمنح الإخوان أداة ضغط سياسي وإعلامي.
رغم غياب هيكل تنظيمي معلن، يعتمد الإخوان على آليات قيادة غير رسمية تشمل مجالس استشارية وأمناء يتحكمون بالتمويل والتعيينات، وأوضح المركز الأوروبي أن هذه البنية تمنح الجماعة مرونة في استبدال القيادات وإعادة توزيع الأدوار، بحيث ينتقل القادة بين مواقع محلية وإقليمية أو بين مؤسسات تعليمية وخيرية.
وتتيح هذه المرونة للجماعة تجنب تركيز الانتباه على شخصية واحدة يمكن استهدافها، وتسمح بإعداد جيل جديد من القادة الشباب عبر مؤسسات فكرية مرتبطة بالتنظيم الدولي. إنها آلية تفسر قدرة الإخوان على الاستمرار رغم الضغوط الأمنية والسياسية داخل ألمانيا.
لا يمكن فهم حضور الإخوان في ألمانيا دون التطرق إلى التمويل، فالجماعة تعتمد، بحسب تقارير هيئة حماية الدستور، على الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات تحت غطاء العمل الإنساني، إضافة إلى دعم خارجي يأتي من رجال أعمال في الخليج أو من بعض الدول الداعمة.
كما تلعب المؤسسات التعليمية والثقافية دورًا في تأمين موارد مالية عبر الرسوم والمنح، يعاد توجيه جزء منها لدعم الأنشطة التنظيمية. ويرى محللون أن التمويل ليس هدفًا اقتصاديًا بقدر ما هو وسيلة لبناء النفوذ المحلي عبر تقديم خدمات تعليمية واجتماعية، ما يمنح الجماعة شرعية إضافية ويعزز قدرتها على التجنيد.
رغم صلابتها، لم تسلم الجماعة من الانقسامات، حيث أدت التباينات الأيديولوجية والتكتيكية إلى حدوث خلافات بين قيادات تسعى للاندماج مع المجتمع الألماني وأخرى تتمسك بخطاب أكثر انغلاقًا، وانعكست هذه الخلافات على طريقة التعامل مع السلطات والجمعيات الإسلامية الأخرى.
وأفضت بعض الانشقاقات إلى انسحاب مراكز من الأطر التمثيلية، أو انتقال شخصيات للعمل المستقل، غير أن الإخوان أظهروا قدرة على تجاوز هذه الأزمات عبر إعادة تدوير القادة وتوزيع الأدوار، ما حافظ على تماسك الشبكة في نهاية المطاف.
ذكر المركز الأوروبي أن الإخوان في ألمانيا ليسوا فرعًا مستقلًا بل جزء من التنظيم الدولي. ويتجلى ذلك في مشاركتهم بالمؤتمرات الدولية بتركيا وأوروبا، وحصولهم على دعم معنوي ومالي من قيادات في لندن وإسطنبول، إضافة إلى التنسيق في إعداد الكوادر.
ويلاحظ أن بريطانيا شكّلت مقرًا تاريخيًا للقيادات منذ التسعينيات، بينما صعدت تركيا كمركز بديل بعد الربيع العربي، مقدمة دعمًا سياسيًا وإعلاميًا مباشرًا، وانعكس هذا التنافس على الفروع الأوروبية، حيث اقترب بعض القادة من النهج التركي الأكثر صدامية، فيما تمسك آخرون بالواجهة البريطانية الأكثر براغماتية.
أدت هذه الانقسامات الدولية إلى ارتباك في المشهد الألماني لجماعة الإخوان، إذ تبنّت بعض الجمعيات خطابًا أكثر تصعيدًا متأثرًا بالنموذج التركي، فيما اختارت أخرى خطابًا معتدلًا لتأمين بقائها القانوني، فقلل هذا التباين من وحدة الإخوان في ألمانيا، لكنه زاد من مرونتهم في توزيع الأدوار وتجنب الاستهداف المباشر.
رغم ذلك، تحذر التقديرات الأمنية من أن استمرار هذه الانقسامات قد يضعف قدرة الجماعة على الظهور كفاعل إسلامي موحد داخل ألمانيا، ومع ذلك، يظل حضور الإخوان في ألمانيا قائمًا كشبكة متماسكة، تعتمد على قيادات مرنة وتمويل متنوع وعلاقات دولية معقدة.
