مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة
يتابع المفكر مارسيل غوشيه في كتابه الجديد “العقدة الديمقراطية في أصول الأزمة النيوليبرالية” الصادر حديثاً في باريس عن منشورات غاليمار (2024)، مشروعه مقدماً عناصر لتحليل الأزمة التي تعانيها الأنظمة الديمقراطية اليوم في أوروبا عموماً وداخل فرنسا خصوصاً، متسائلاً عن الدور الذي تلعبه البنية الاجتماعية والعولمة في هذه الأزمة، مفككاً “عقد” المجتمعات الليبرالية الغربية، رافضاً اختزالها في صدام الاتجاهات النيوليبرالية والشعبوية التي دافع عنها كثر. وبعد تفكيره بظهور الديمقراطية كنظام سياسي قائم على احترام إرادة الشعب وحريته في تقرير نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومشاركته التامة في جميع جوانب حياته، يقدم غوشيه نظرية عامة حول هذا النظام، تؤرخ من منظور فلسفي للقرن الـ20.
فبالنسبة لغوشيه، ترجع جذور هذه الأزمة إلى التناقض المتزايد بين مبدأي الديمقراطية الليبرالية، أي الذاتية الفردية الحرة التي يحميها القانون والمؤسسات وسيادة الدولة بوصفها التعبير الأكمل عن الإرادة العامة. وهذا التناقض الجديد حل محل تآلف ساد سابقاً بين هذين المبدأين، لكنه انهار اليوم بسبب انتقال معيار السيادة من الأمة إلى الفرد الصائر محور العمل السياسي. وهذا ما قاد غوشيه إلى القول إن الحركات الديمقراطية التي قامت قديماً ضد تجاوزات الحكومات الاستبدادية وسلطتها المطلقة تواجه اليوم تحديات مماثلة للوقوف ضد تجاوزات الفردية الحقوقية السائرة على طريق السيطرة على السياسة.
وفي هذا الكتاب، يستعيد غوشيه إذاً الجدل الذي أطلق عليه بعض اسم “ديكتاتورية القضاء”، الرامي إلى إعطاء السلطة القضائية في الغرب سلطات تتجاوز نطاقها المحدد في نظام الفصل بين السلطات الذي هو الخلفية العميقة للديمقراطيات الليبرالية. فما هي مرجعية القانون في النظام الليبرالي الحديث بعد أن انفصل عن الدين وشرائعه المقدسة، وبعد أن أصبح العقد الاجتماعي الحر الضمانة الوحيدة للمواطنة في الدولة المدنية؟ وما مصدر القانون في مجتمع سياسي ينبع من داخل التركيبة الاجتماعية نفسها؟ هل هو حصيلة التوافق بين الإرادات الذاتية الخاضعة لمصالح ضيقة أم هو تعبير عن مضمون عقلاني ثابت لقيم جماعية مدنية مشتركة؟
هذه الأسئلة التي طرحت بقوة في الفكر الليبرالي الحديث مع لوك وهوبس وروسو، يعيد مارسيل غوشيه طرحها من زاوية علاقة القانون، في دلالته الحقوقية الأساس بالسياسة من حيث هي تدبير سيادي حر للشأن العام. ففي حين يرى بعض أن القانون درع الحماية ضد تجاوزات السلطة السياسية، يرى آخرون أن الممارسة القانونية اختلطت بالفعل السياسي فأفقدته خصوصيته، حتى إن الليبرالية أصبحت هي نفسها عاجزة عن حفظ مكانة السياسة في دلالتها كنظام حكم تقريري، محولة إياها إلى مجرد آلة لتنفيذ الأحكام القضائية أو قوة لتسيير اقتصادي للموارد العامة.
هذه الإشكاليات وغيرها يعالجها كتاب غوشيه الذي يضيف إلى كتاباته الأخرى حلقة جديدة يمكن من خلالها قراءة الأحداث السياسية والدولية الراهنة. فمنذ بدئه بنشر دراسات اهتمت بمرحلة تاريخية مفصلية في تاريخ أوروبا، وتأملت في بناء الديمقراطيات الحديثة المنفصلة عن الدين وفي بناء نظام إنساني اكتسب شرعيته من الشعب المكون من أفراد، انطلاقاً من مفهوم الفرد المستقل الذي أوجدته الحداثة، يوضح هذا الكتاب نظرة غوشيه إلى الأحداث التي تحتل راهناً المشهد السياسي الديمقراطي حول العالم.
ويقول غوشيه إن الإنسان مع مجيء الديمقراطية حلم بعالم يحكم فيه نفسه بنفسه. غير أنه سرعان ما لاحظ أن السيطرة على هذا العالم صعبة جداً. ففي محاولته التأريخ لمسيرة ظهور الديمقراطية وإيجاد مرتكزاتها في هذا المجتمع الغربي أو ذاك، انتبه إلى أن “الثورة الحقيقية” التي عرفتها هذه المجتمعات منذ بداية القرن الـ15 وحتى نهايات القرن الـ18 كانت حصول الفرد على “استقلاله الذاتي”، في نظام يجمع بين الأبعاد السياسية والقانونية والتاريخية. وترافق هذا الجمع مع كم هائل من المشكلات طرحت بثقلها على الديمقراطيات الغربية، التي تطلب بحسبه فهمها تحديد مصطلح الاستقلالية الذي اقترح مقاربته من خلال نقيضه أي بأسلوب ذكر الأضداد. فالاستقلالية نقيض التبعية، والتبعية اتكالية تشير إلى خضوع الإنسان لقانون أعلى يتموضع خارجاً عنه، يتحكم في سلوكه. لكن الاستقلالية في المجتمعات الأوروبية الحديثة شرط قانوني. إنها تعريف الفرد من خلال حقوقه التي تصبح مصدراً لكل صلة محتملة له بالآخرين. ففي التبعية، كانت العلاقة التي تجمع بين البشر تقع قبلاً خارج سيطرتهم، وكانت السلطة التي يخضعون لها تأتي من كيان أعلى، وكانت أنماط السلوك سواء تلك المتعلقة بالعلاقات بين الجنسين أو تلك المتعلقة بالعائلة أو بالعلاقات الاجتماعية، محددة سلفاً. لكن خروج الدين من المجتمع أسقط الفرد في نقيض هذا النمط، طارحاً عليه مسألة إعادة تشكيل علاقته بذاته.
لذا أشار غوشيه إلى أن “التحدي الأكبر يكمن اليوم في قدرة الإنسان على امتلاك سلطة على حياته الخاصة دون معرفة كيفية تصرفه بهذه السلطة”، مضيفاً أن هذه الاستقلالية السياسية تتجسد بوضوح في النظام الديمقراطي. “فالديمقراطية، على ما يقول المؤلف هي الاعتراف بالحقوق الفردية التي تنبع منها كل سلطة وقانون”. غير أننا إن أمعنا النظر لوجدنا أن “الوضع الديمقراطي أصبح اليوم صعباً للغاية، لأن كل ما كان محدداً سلفاً في سلوك الفرد بات أمراً شخصياً”. وهذا ما قاد غوشيه إلى صياغة مفهوم “مفارقة الديمقراطية” الناتجة من عدم التوافق بين الاعتراف المتبادل بالحقوق، وعدم الرضا الذي يشعر به الفرد بعد صدور قرارات لا تتوافق مع خياراته. ويوضح غوشيه هذه المفارقة قائلاً “كلما زادت الحرية في صياغة الإطار المشترك أصبح هذا الإطار المشترك أكثر إحباطاً للأشخاص الذين يسهمون في تحديده”.
ويبدو لغوشيه أن الديمقراطية سمحت باكتشاف التناقض القائم بين الأفراد الذين يعيشون دوماً في حال مواجهة مع بعضهم بعضاً بسبب تباين آرائهم وخياراتهم، مما يضع السلطة الحاكمة أمام صعوبة السيطرة على هذه المواجهات بغية إيجاد أرضية مشتركة تجتهد في فرضها على المواطنين غير الراضين. وهذا الوضع الديمقراطي المتأزم سيقود في رأيه إلى الإحباط، بسبب اضطرار الفرد إلى العيش مع أشخاص يختلفون معه بالرأي والخيارات.
وفي هذا الكتاب يعبر غوشيه عن أسفه لغياب مبدأ الواقعية عن الساحة السياسية الراهنة. ففي نظره، أصبح اللجوء إلى هذا المبدأ من قبل الفاعلين السياسيين “شبه معدوم”، وأصبح “الوعد بالحزم” لغة السياسة الحالية، مضيفاً أن “أحد جوانب الأزمة الديمقراطية الحالية هو استبعاد هذا البعد الأخلاقي والفكري. ولئن تصدر مبدأ الواقعية المشهد الاقتصادي فإنه تمثَّل بصورة أساس بنوع من “الامتثال والاتباع”.
وبعد تفحصه الأزمة السياسية العميقة التي تمر بها المجتمعات الليبرالية يؤكد غوشيه أن “إحدى أكبر مشكلات الديمقراطية الغربية اليوم هي الشعور الشعبي بانفصال الحكام عن مواطنيهم، انفصال يعود بحسبه إلى غياب الأخذ بمبدأ الواقعية في المؤسسات. فالحياة السياسية الديمقراطية “فقدت كل معنى” والغرب “يعيش في ديمقراطيات بلا ديمقراطيين”، لأن النهج الذي يؤخذ به بدلاً من الواقعية السياسية هو النهج الانتخابي الساعي فقط للوصول إلى السلطة.
ويشدد مارسيل غوشيه إذاً على أن مسألة كيفية ممارسة هذه السلطة لم تعد تطرح في النظام السياسي الغربي. ومما زاد الأزمة في رأيه تعقيداً تنامي العولمة النيوليبرالية التي تحرم الدولة القومية أو الدولة الأمة والشعوب التي تتشكل منها القدرة على التحكم بمصيرها الجماعي.
الديمقراطية إذاً في أزمة. فعلى جانبي المحيط الأطلسي تنتفض الشعبويات القومية والسلطوية ضد النخب الليبرالية العالمية، بينما تتفاقم الفجوات الاجتماعية وتزداد حدة التصادم بين التجارب والتوقعات بين من يستطيعون الانخراط في الفضاء العالمي الجديد، ومن هم محاصرون في أماكنهم المحلية. وكل هذا يحدث على خلفية كارثة بيئية تؤكد العجز الجماعي عن تحمل المسؤولية.
وفي هذا الكتاب يقدم مارسيل غوشيه شرحاً مفصلاً لهذا السيناريو من خلال درسه المسار الذي أوصل الديمقراطية الأوروبية إلى حالها الراهنة. فأطروحته تقوم على فكرة أن العولمة ليست فقط نتاجاً للتحول الداخلي للاقتصادات والرأسمالية، بل هي حصيلة التحولات التي أصابت البنى السياسية والقانونية والتاريخية في المجتمعات الغربية. ذلك أن انفتاح الفضاءات الوطنية وتنظيمها حول الحقوق الفردية، فضلاً عن توجه الأنظار نحو المستقبل على حساب الارتباط التقليدي بالماضي، هو ما أفرز الفضاء العالمي الجديد الذي يتمحور حول السوق. وهذه البنية السياسية الجديدة هي نفسها حصيلة تلك الحركة الطويلة التي قادت الإنسان الغربي إلى الابتعاد من التنظيم الديني واللجوء إلى تنظيم إنساني آخر. بتعبير آخر، إن خروج المجتمعات الغربية من البنى الدينية التقليدية حرر إمكاناتها، لكنه أسفر خلال الوقت عينه عن ولادة “عالم جديد” محير، شكلت الأزمة التي تمر بها الديمقراطية جانباً من أكثر جوانبه إرباكاً. فأزمة الديمقراطية الحالية ليست على مستوى مبادئها التي يتم الترحيب بها، بل على مستوى طريقتها في العمل التي تثير إحباطاً هائلاً وانقساماً عميقاً بين الشعوب.
“أزمة نجاح الديمقراطية” ترتبط على ما يقول غوشيه بقراءة مضللة للبنية أو للتنظيم الاجتماعي الجديد الذي نشأ من إبعاد الدين. وقادت هذه الرؤية الاختزالية لطبيعة الديمقراطية إلى إغفال العقدة التي تجمع عناصرها المختلفة. ويقترح غوشيه في كتابه وصف هذه الأزمة الديمقراطية الجديدة بـ”النيوليبرالية” بمعنى يتجاوز الاقتصاد، حتى وإن كانت تكرس حكمه لأنها تشمل كل نواحي الوجود الاجتماعي، كاشفاً لنا عن شروط مستقبلية يجب على الديمقراطية أن تأخذها بعين الاعتبار. فالديمقراطيات برأيه تعيش الآن في جميع أنحاء العالم هزة عميقة وتوترات تتأرجح بين النيوليبرالية والشعبوية. فمن جهة هناك العولمة وشركات أكثر قوة من الدول القومية ورأسمالية بلا حدود، ونخب بلا قيود. ومن جهة أخرى هناك المواطنون الوطنيون الذين يسكنون في مكان معين ويجدون أنفسهم محرومين من اتخاذ القرارات، مقتنعين بأن صوتهم لم يعد مسموعاً. ولئن سيطر التفسير الاقتصادي على هذا الانقسام المتعدد الأوجه فإن مارسيل غوشيه يعارضه بشدة. فهو لا ينكر بالطبع تأثير العمليات الاقتصادية لكنه يؤكد أنها تشكل في الواقع نتائج وليست أسباباً. فالرأسمالية هي ابنة التاريخ لكنها ليست حتماً أباه. لذا ينبغي الحفر تحت الاقتصاد للوصول إلى بنية تحتية أخرى، إذ تتكون التحولات في السياسة والقانون والتاريخ.
باختصار، يقدم لنا كتاب مارسيل غوشيه “العقدة الديمقراطية في أصول الأزمة النيوليبرالية” فهماً عميقاً للمسار الذي تسلكه الديمقراطيات الحديثة من خلال مقاربة المفاهيم. لعل الصفحات القليلة التي تتناول فيه موضوع “الجغرافيا الرمزية” الجديدة لعالم موحد “مغلق ميتافيزيقياً على نفسه”، إذ من المفترض أن تتعرف جميع الدول القومية على نفسها في مساواة داخل فضاء “متعدد المراكز” مثيرة للغاية، مثلها مثل الصفحات التي تتناول الأزمة البيئية و”الفراغ المرعب” الذي يخلقه هذا العالم الإنساني المنفصل عن “الإطار الكوني”، الذي كان سابقاً متجذراً فيه.
ويجادل المفكر بأن العجز النسبي الذي فرضته الديمقراطيات على نفسها يمكن عكسه. ذلك أنه في مواجهة جميع تحديات هذا العالم الجديد، فإن “الدور المحدد للسياسة” بوصفها أمراً لا يستغنى عنه، يتمثل داخلياً في “التوسط بين أبناء المجتمع الواحد، وخارجياً في التوسط مع الآخرين”. فإن كانت إعادة الاعتبار للسياسة، من حيث هي تدبير سيادي للحقل العام، مطلب بعض الذين طالبوا بتفكيك “دولة القانون” بغية الرجوع إلى منطق الفصل والتوازن بين السلطات الذي هو جوهر الديمقراطية، فإن المتابع لتطور الديمقراطيات الغربية يشهد على انهيار التشكيلات السياسية المنظمة من أحزاب وحركات أيديولوجية، على حساب تزايد نشاط الحركات المدنية والحقوقية التي غدت القوى الفاعلة والمؤثرة في السياسة، فضلاً عن خروج المؤسسات الاقتصادية وتلك القابضة على التكنولوجيا عن الحقل السيادي للدول، مما ولد معادلة معقدة بالنسبة إلى المنظومة السياسية التي تقلصت قدراتها الفعلية والعملية في مركز القرار والفعل.
ما يهمنا في نهاية المطاف هو التأكيد أن حال العجز السياسي في المجتمعات الليبرالية الغربية ولدت للمرة الأولى في تاريخ هذه المجتمعات ما سماه البعض بالانقلابات الانتخابية، التي أدت إلى ظهور حركات تمرد وعصيان في البلدان الديمقراطية العريقة، تزامنت مع تنامي الحركات الاحتجاجية في الشارع، والتي لم تعد خاضعة لأدوات التحكم السياسي. ولعل هذا بالضبط ما أشار إليه غوشيه بعقدة الديمقراطية الليبرالية.