
لم تكن تصريحات نائب الرئيس الأمريكي “جي دي فانس” في 28 كانون الأول (ديسمبر) 2025، التي حذر فيها من سيناريو تمدد نفوذ تيارات الإسلام السياسي داخل دول أوروبية نووية، مجرد قراءة استشرافية عابرة، بل جاءت لتنبش في ملف شائك لطالما حاولت العواصم الأوروبية، وعلى رأسها لندن، إدارته بهدوء بعيداً عن صخب التصنيفات الأمنية الحادة.
هذا التحذير الأمريكي، الذي نُقل عبر تقارير إعلامية دولية، أعاد تسليط الضوء على بريطانيا بوصفها الحاضنة الأكثر استدامة لجماعة الإخوان المسلمين خارج حدود العالم العربي، حيث تحولت “لندن” عبر العقود إلى منصة انطلاق إيديولوجية وإعلامية تتجاوز في تأثيرها الجغرافيا البريطانية لتصبح فاعلاً عابراً للحدود.
تاريخياً، لم تنظر “الدولة العميقة” في بريطانيا إلى حركة الإخوان المسلمين كإيديولوجيا دينية فحسب، بل تعاملت معها منذ أربعينيات القرن الماضي كأداة وظيفية يمكن استغلالها لموازنة القوى القومية واليسارية في الشرق الأوسط. هذا الإرث البراغماتي انتقل من مستعمرات الأمس إلى قلب العاصمة البريطانية اليوم؛ فبدلاً من المواجهة الصفرية فضلت أجهزة الاستخبارات والسياسة في لندن نموذج “الإدارة عن قرب”، وهو ما منح الجماعة هامشاً واسعاً لبناء شبكات معقدة من المؤسسات التعليمية، والبحثية، والخيرية.
ورغم المراجعات الحكومية المتكررة، وآخرها عام 2015، ما تزال بريطانيا تتبنّى “صيغة رمادية” ترفض عبرها تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابي. ويرى مراقبون، نقل عنهم المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، أنّ هذا الموقف ليس نابعاً من قناعة فكرية، بل من فلسفة أمنية تهدف إلى منع انزلاق الجماعة نحو السرية أو الراديكالية العنيفة، مفضلةً إبقاءها تحت الضوء والقانون البريطاني.
في دهاليز السياسة المحلية لم يحاول الإخوان إنشاء حزب سياسي، بل اعتمدوا تكتيك “التسلل الناعم” عبر كسب ثقة الأحزاب الكبرى، وفي مقدمتها حزب العمال. هذا التفاعل يقوم على مقايضة غير مكتوبة؛ حشد أصوات الجاليات المسلمة في الدوائر الانتخابية الحساسة مقابل تبنّي مواقف سياسية مرنة تجاه قضايا التنظيم الدولية.
هذا النفوذ الانتخابي جعل كثيراً من الساسة البريطانيين يترددون في اتخاذ خطوات حاسمة ضد الجماعة، خشية فقدان خزان انتخابي ضخم أو إثارة توترات مجتمعية تحت لافتة “استهداف الأقليات”، وهو ما يمنح الإخوان قدرة فريدة على التأثير في صياغة مواقف لندن تجاه ملفات حقوق الإنسان والأنظمة السياسية في الشرق الأوسط.
تظل بريطانيا المنصة الأهم لإعلام الإخوان، ليس فقط بسبب سقف الحريات القانونية المرتفع، بل لأنّ وجود هذه الوسائل الإعلامية يمنح لندن أوراق ضغط غير مباشرة في صراعات إقليمية بعيدة. فالمنصات التي تهاجم العواصم العربية من “لندن” تعمل في إطار قانوني يحميها، بينما تستفيد الدولة البريطانية من صدى هذا الخطاب في ممارسة نفوذ جيوسياسي بتكلفة صفرية.
مع نهاية عام 2025 تزداد الضغوط على لندن لإعادة تقييم هذا النموذج، فالتصريحات الأمريكية الأخيرة حول مخاطر تغلغل الإسلام السياسي في مفاصل الدول النووية تضع “نموذج التعايش البريطاني” تحت مجهر الحلفاء. والجدل اليوم لم يعد مقتصراً على الأمن، بل امتد ليمسّ هوية المجتمع البريطاني ومدى اندماج الجاليات المسلمة بعيداً عن سطوة التنظيمات المؤدلجة.
ويبقى السؤال المُعلّق في أروقة (داونينج ستريت): هل سيظل خيار “الإدارة بدل الحظر” صامداً أمام المتغيرات الأمنية الدولية المتسارعة، أم أنّ لندن ستحسم أمرها أخيراً وتغلق البوابات التي ظلت مفتوحة لعقود؟ الأيام القادمة، ومع تزايد الضغوط من واشنطن وشركاء القارة، قد تجبر بريطانيا على الانتقال من “الاحتواء” إلى “المواجهة”، أو على الأقلّ إعادة رسم حدود اللعبة مع الإخوان.
محمد سبتي .. حفريات
