
في العاشر من أغسطس عام 2019، عُثر على جيفري إبستين، الملياردير الأمريكي المُدان، ميتًا في زنزانته في سجن متروبوليتان بمدينة نيويورك، بينما كانت محاكمته بتهمة الاتجار بالجنس واستغلال القاصرات على وشك البدء. أكدت السلطات الرسمية أن سبب الوفاة كان انتحارًا بواسطة الشنق، وفق ما كشف تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي والطب الشرعي، لكن نظريات المؤامرة انتشرت مثل النار في الهشيم
إبستين لم يكن مجرد رجل أعمال عادي، بل كان شخصية محورية في عالم المال والسياسة والمجتمع الراقي، معروفًا بتودده لأصدقاء مشهورين ومعارفه البارزين، ومن بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، والأمير البريطاني أندرو، العلاقات الواسعة التي جمعته بهذه الشخصيات، إلى جانب جرائمه الجنسية البشعة، شكّلت أرضًا خصبة لانتشار نظريات المؤامرة بعد وفاته مباشرة.
وُلد إبستين في نيويورك عام 1953، وبدأ مسيرته المهنية كمدرس رياضيات قبل أن يتحول إلى عالم المال والاستثمار، وفق ما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في تقرير لها. أسس إبستين شركات للاستشارات المالية وجمع ثروة هائلة، لكنه استخدم أمواله وعلاقاته لتكوين شبكة واسعة من المعارف تشمل سياسيين، مشاهير، وأعضاء من النخبة الدولية.
وامتلك جزرًا خاصة، أبرزها جزيرة ليتل سانت جيمس في جزر فيرجن الأمريكية، والتي ارتبطت بمعظم الادعاءات حول استغلال القاصرات، كما أقام علاقات وثيقة مع رجال أعمال ومستثمرين عالميين وسياسيين، ما منح نفوذًا كبيرًا في الأوساط الاجتماعية والسياسية. في حياته العامة قدم نفسه كرجل خيري ومتبرع، لكنه في الخفاء كان يدير شبكة واسعة لاستغلال الفتيات القاصرات جنسيًا، وفق الادعاءات والمحاكمات.
في يوليو 2019، أُوقف إبستين مجددًا بعد تحقيقات شملت تورطه في جرائم جنسية ضد القاصرات. سبق له الإقرار بالذنب في قضية مشابهة قبل سنوات خلال إدارة الرئيس جورج بوش الابن، ضمن صفقة سمحت له بتخفيف العقوبة، وهو ما أدى لاحقًا إلى استقالة وزير العمل أليكس أكوستا.
الجرائم التي ارتكبها تضمنت إدارة شبكة واسعة من الفتيات القاصرات واستغلالهن جنسيًا، وجمع معلومات وصور وفيديوهات يمكن أن تستخدم لاحقًا للابتزاز، واستغلال ثروته ونفوذه لتجنب العقاب على مدار سنوات. رغم الإعلان الرسمي بأن الوفاة كانت انتحارًا، ثار جدل واسع حول كيفية تمكنه من الانتحار تحت المراقبة.
قبل أسابيع قليلة من وفاته، وُجد إبستين شبه فاقد للوعي ومصابًا بجروح في رقبته، وتم وضعه تحت المراقبة المكثفة خشية انتحاره، ومع ذلك تمت إزالة اسمه من قائمة المراقبة قبل وفاته مباشرة، ما أدى إلى تساؤلات كبيرة عن الإجراءات الأمنية في السجن.
فشل كاميرات المراقبة في تسجيل اللحظات الحاسمة زاد من الغموض، كما أن بعض الحراس لم يلتزموا بالإجراءات الأمنية بالشكل المطلوب، مما جعل الظروف مواتية لانتشار التكهنات بشأن وفاته. بعد ساعات قليلة من وفاته، اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي هاشتاجات مثل #قاتل_إبستين، وانتشرت الصور والمقاطع التي تشير إلى أن موته لم يكن انتحارًا بل عملية قتل مدبرة.
ركزت الشائعات على التورط السياسي للمشاهير، حيث ادعت بعض التغريدات والمنشورات المزيفة أن إبستين كان يمتلك معلومات خطيرة عن شخصيات بارزة وأن موته كان لحمايتهم.
كما تم ربط وفاته بصفقات قانونية سابقة، رغم أن الصفقة التي أُبرمت مع إبستين لتخفيف العقوبة كانت قبل تولي الرئيس أوباما الحكم. إضافة إلى ذلك، غذّت الإجراءات الأمنية الغامضة، ورفع إبستين من قائمة المراقبة، وفشل كاميرات السجن، التكهنات حول وجود تواطؤ أو تهاون متعمد، ولعب المحتوى المزيف على الإنترنت دورًا كبيرًا في نشر هذه الشائعات، بما في ذلك صور ومقاطع فيديو تم التلاعب بها لتظهر إبستين في مواقف مزعومة مع ترامب أو كلينتون.
رغم كثرة الادعاءات، لا يوجد أي دليل موثوق يدعم فرضية القتل أو التواطؤ المباشر من قبل أي شخصية بارزة، ومع ذلك بقيت وفاته محورًا عالميًا للنقاش، حيث تتلاقح الحقائق الموثقة مع تكهنات وإشاعات مثيرة، مظهرة التباين بين الحقائق القانونية وخيال الجمهور المتلهف للفضائح، وفق صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
أصبحت وفاة إبستين درسًا حيًا في كيفية تفاعل وسائل التواصل مع الأزمات والأحداث الغامضة، حيث ساهم الإعلام الرقمي في تضخيم الشائعات بسرعة غير مسبوقة، ويميل الجمهور إلى تصديق الروايات المثيرة التي تتضمن قوى نافذة وشخصيات شهيرة، رغم ضعف الأدلة، وهو ما يوضح قوة وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الوعي الجمعي وانتشار المعلومات المضللة، وقد حذر خبراء الإعلام من خطر تضخيم الانقسامات السياسية عبر نشر هذه المعلومات، مع الإشارة إلى أن هذه القضية تمثل تلاقحًا بين الجرائم الحقيقية، النفوذ الاجتماعي، والغموض الأمني.
جيفري إبستين كان رمزًا للثروة والنفوذ والجرائم الجنسية، ووفاته كشفت عن تداخل معقد بين القانون والسياسة والمجتمع والفضائح الأخلاقية، الحقائق الرسمية تؤكد أن الوفاة كانت انتحارًا، وأن أي ادعاء بتواطؤ أو مؤامرة خارجية لا يستند إلى أي دليل، بينما استمرت نظريات المؤامرة في الانتشار عبر الإنترنت.
