
كثيرا ما يضخم الرئيس الأميركي دونالد ترامب التهديدات بينما يتجاهل الأزمات الحقيقية التي تتكشف أمام أنظار الجميع. وتبقى ادعاءاته الأخيرة بشأن تعرض المسيحيين في نيجيريا لتهديد وجودي مبالغا فيها بشكل كبير. فالوضع في الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان في أفريقيا هو في الحقيقية أكثر تعقيدا، حيث يطال العنف كلا من المسلمين والمسيحيين.
ومع ذلك، وبينما يركز ترامب على قضية متوهمة، تتفاقم كارثة حقيقية في مالي، حيث يحاصر مسلحون مرتبطون بتنظيم القاعدة العاصمة، بينما تقف البلاد على شفا أن تصبح أول دولة يحكمها خلفاء أسامة بن لادن.
ويجب أن يلفت هذا التطور انتباه الرئيس، ليس فقط لأن الانهيار المحتمل لمالي قد يُحدث صدمات في منطقة الساحل وخارجها، ويزعزع استقرار منطقة هشة بالفعل، ويخلق ملاذات جديدة للجماعات الإرهابية، ولكن أيضا لأن أحد المهندسين الرئيسيين لهذه الأزمة هو شخص ينتقده ترامب كثيرا: الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وتُعدّ الكارثة الفرنسية في مالي أحد أبرز الأمثلة على سوء الإدارة الإستراتيجية في التاريخ الحديث، مع عواقب تهدد المجتمع الدولي بأسره.
لقد أصبح الوضع على الأرض مقلقا للغاية بفرض جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهي تحالف تابع لتنظيم القاعدة، حصارا فعليا على باماكو، ونصبت كمائن لقوافل الوقود وقطعت طرق الإمداد. وتشكّلت طوابير طويلة أمام محطات الوقود، ولا تزال المدارس مغلقة، وتنصح السفارات الغربية مواطنيها بالمغادرة.
وقد أظهر المسلحون تطورا ملحوظا في أساليبهم، باستخدام الطائرات المسيّرة وتنفيذ هجمات منسقة عبر مسافات شاسعة. وتحوّل ما كان في السابق تمردا غير منظم إلى ظهور كيان شبه دولة. وتعود جذور هذه الأزمة إلى عقد من الغطرسة الفرنسية والتكتيكات قصيرة النظر والغرور ما بعد الاستعمار.
وعندما أطلقت فرنسا عملية سيرفال عام 2013 لصد القوات الجهادية التي كانت تتقدم نحو باماكو، احتُفي بالمهمة في البداية كنصر سريع. واستعادت القوات الفرنسية المدن الرئيسية وأعادت بسط سيطرة الحكومة. مع ذلك، وكما أشار محللون من المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن لاحقا، فقد ثبت أن هذا النجاح كان وهميا.
وتشتتت الجماعات المسلحة وتبنت تمردا لا مركزيا قائما على المجتمعات المحلية، متغلغلة في أوساط السكان المحليين ومستغلة التوترات العرقية والطائفية القائمة. وأما المهمة الفرنسية اللاحقة، عملية برخان، التي انطلقت عام 2014، فلم تفعل سوى ترسيخ هذا النهج الخاطئ.
وبدلا من حل النزاعات القبلية أو حماية المدنيين، حافظت باريس على تركيزها الصارم على مكافحة الإرهاب، مستهدفة قادة الجماعات المسلحة وشنّ الضربات الجوية حيثما أمكن. وكانت النتائج كارثية: تصاعد العنف بشكل كبير، حيث ارتفعت الحوادث المسجلة بنسبة 70 في المائة في 2021 وحده، مما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من 2.5 مليون شخص.
وبعيدا عن أخطائها التكتيكية، نبع الفشل الأعمق الفرنسي من الإرث الاستعماري المستمر. وقد خلقت صورة التفوق العسكري الفرنسي، المتجذرة في ماضيها الإمبراطوري، توقعات غير واقعية لدى الماليين الذين عجزوا عن فهم عجز حاكمهم الاستعماري السابق من هزيمة المتمردين المحليين.
وقد غذّى هذا التناقض مشاعر الاستياء ونظريات المؤامرة التي استغلها المجلس العسكري المالي لاحقا بعد استيلائه على السلطة في 2020.
وقد زادت تناقضات ماكرون من حدة الاستياء. ففي 2019، قصفت فرنسا قوافل المتمردين لدعم الرئيس التشادي إدريس ديبي، ثم أيدت وصول ابنه إلى السلطة بشكل غير دستوري عام 2021، بينما كانت تدين في الآن نفسه المجلس العسكري في مالي بتهمة تقويض الديمقراطية، وقابل الماليون هذه الازدواجية في المعايير بالرفض.
وخلق انسحاب فرنسا في أغسطس 2022 فراغا سرعان ما ملأه المرتزقة الروس، الذين كانوا يُعرفون في البداية بتسمية مجموعة فاغنر، ثم أعادوا تسمية أنفسهم لاحقا باسم “الفيلق الأفريقي.”
وقد تكبدت هذه القوات خسائر فادحة وزادت من نفور السكان منها بسبب أعمالها الوحشية، بما في ذلك الإعدامات الميدانية لمدنيين من عرقية الفولاني.
ويرى المحلل بوبي غوش في تقرير لمجلة فورين بوليسي أن مالي تواجه الآن خطرا غير مسبوق يتمثل في احتمال أن تصبح أول دولة في التاريخ يحكمها تنظيم القاعدة الذي تشكّل قبل أربعة عقود.
ولا يستطيع العالم تحمل مثل هذه النتيجة. فانهيار مالي سيؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل في جميع أنحاء منطقة الساحل، ومن المرجح أن يشمل بوركينا فاسو لاحقا.
وقد شن المسلحون بالفعل هجوما أوليا في نيجيريا ويستفيدون من شبكات التجارة غير المشروعة في منطقة الحدود الثلاثية بين ساحل العاج وبوركينا فاسو وغانا. وتمتد التداعيات إلى ما هو أبعد من غرب أفريقيا، حيث يمكن أن يصبح معقل الإرهابيين في مالي مركزا عالميا للجهاديين ومنصة انطلاق لهجمات على أوروبا وخارجها.
وغالبا ما يستمتع ترامب بالإشارة إلى إخفاقات الأوروبيين. وسيكون انتقاده لهم مبررا في هذه الحالة. وقد خلق سوء إدارة ماكرون للأزمة في مالي أزمة أكبر تهدد باجتياح منطقة بأكملها. وتتحمل فرنسا المسؤولية ويجب عليها أن تتولى زمام المبادرة في معالجة الوضع.
ويتطلب ذلك أكثر من مجرد القاء الخطابات في المحافل، ويستلزم إجراءات ملموسة واستثمارات كبيرة. وستحتاج باريس إلى التعاون الوثيق مع الهيئات الإقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) والاتحاد الأفريقي بدلا من تهميشها.
وعلاوة على ذلك، يجب على فرنسا أن تواجه الحقيقة القاسية المتمثلة في أن جهود مكافحة الإرهاب تفشل لا محالة حين لا تكون ضمن حلول سياسية، وهو درس تعلمته الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، لكن الفرنسيين لم يستوعبوه بعد في منطقة الساحل. وأما البديل الآخر، وهو السماح لمالي بأن تصبح أول دولة حقيقية لتنظيم القاعدة، فهو أمر لا يمكن تصوره على الإطلاق.
