في ظلّ التوتر غير المسبوق بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، تبدو أوروبا أقرب من أيّ وقتٍ مضى إلى صدامٍ مفتوح قد يغيّر ملامح الأمن العالمي، ومع ذلك، تؤكد كوليندا غرابار-كيتاروفيتش، الأمينة العامة المساعدة السابقة في الناتو والرئيسة السابقة لكرواتيا، في مقابلةٍ خاصة مع CNN الاقتصادية، أنّ نافذة الدبلوماسية لم تُغلق بعد، محذّرةً من أن الحروب الحديثة لم تعد تُخاض فقط في الميدان، بل أيضاً في الفضاء الرقمي حيث يمكن لهجومٍ إلكتروني واحد أن يشلّ اقتصادات بأكملها دون إطلاق رصاصة واحدة.
وتعيش أوروبا مرحلة هي الأخطر منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، ففي سبتمبر الماضي، اخترقت طائراتٌ مسيّرة روسية المجال الجوي البولندي، لتسقطها مقاتلات تابعة للناتو في أول مواجهة مباشرة بين الجانبين منذ بدء الحرب — حادثٌ وصفه رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك بأنه “اللحظة الأقرب إلى صدامٍ مفتوح منذ الحرب العالمية الثانية”.
وفي حوارها مع مع CNN الاقتصادية، شددت كوليندا، على هامش المنتدى العالمي للأمن السيبراني في الرياض، أنّ «نافذة الدبلوماسية لم تُغلق بعد» رغم تقلّص فرص الحوار وازدياد حدّة الاستقطاب بين المعسكرين. وقالت إن “الدبلوماسية باتت أصعب من أي وقتٍ مضى، لكنها لا يجب أن تختفي، فحتى في أكثر اللحظات توتراً، ينبغي أن تبقى هناك قنوات اتصالٍ مفتوحة”.
وأضافت أن التاريخ يبرهن على ذلك، “ففي الحرب الباردة، حين كان العالم على شفير مواجهة نووية، تمكّن القادة من التفاوض على معاهداتٍ للحد من الأسلحة، بما فيها الأسلحة النووية”. وأوضحت أن تلك المرحلة كانت مليئة بالحوادث والاستفزازات والاختبارات لأنظمتنا، لكنها لم تمنع التواصل أو الرغبة في تجنّب الأسوأ”، مشيرةً إلى أن الدرس المستفاد هو “أن استمرار الحوار، مهما كان هشّاً، يبقى أفضل من غيابه.
ترى غرابار-كيتاروفيتش أنّ الهجمات الأخيرة بالطائرات المسيّرة تعكس كيف أصبحت التكنولوجيا جزءاً أساسياً من معادلة الردع الحديثة، فالحروب لم تعد تُخاض بالوسائل التقليدية فقط، بل أيضاً عبر الفضاء السيبراني، حيث يمكن لهجومٍ إلكتروني واحد أن يعطّل اقتصاداتٍ بأكملها أو يشلّ منشآتٍ حيوية دون إطلاق رصاصة واحدة.
وأوضحت أنّ الفضاء السيبراني أصبح اليوم أحد المجالات التشغيلية الرسمية لحلف شمال الأطلسي، إلى جانب البرّ والبحر والجو، وأنّ بعض الهجمات الإلكترونية يمكن أن تُعامل كاعتداءاتٍ فعلية بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تنصّ على أن أيّ هجومٍ على دولةٍ عضو يُعدّ هجوماً على جميع الأعضاء، ويستوجب الردّ الجماعي.
وبيّنت أنّ إجراءات الناتو تبدأ عادةً عندما تتعرّض دولةٌ عضو لهجومٍ إلكتروني وتطلب عقد مشاوراتٍ طارئة بموجب المادة الرابعة من الميثاق، وهي المادة التي تتيح للحلفاء الاجتماع فوراً لتقييم حجم الهجوم وتحديد ما إذا كان يستدعي تفعيل آليات الدفاع المشترك. وفي هذه المرحلة، يتمّ تحليل طبيعة الهجوم وأهدافه ومدى تأثيره على الأمن القومي للدولة المستهدفة.
وأشارت غرابار-كيتاروفيتش إلى أنّ الحلف يمتلك فرق استجابةٍ سيبرانية سريعة يمكن نشرها خلال 24 ساعة لمساندة الدول المتضرّرة تقنياً، سواء عبر دعمها في احتواء الهجوم أو تعزيز أنظمتها الدفاعية. وقالت إنّ الردود الممكنة على الهجمات تختلف باختلاف شدّتها، فقد تكون سياسية ودبلوماسية —مثل الإدانة أو فرض العقوبات أو العزل— أو تقنية عبر تقديم المساعدة في التحقيقات وتأمين البنية الرقمية.
أما إذا بلغ الهجوم مستوى يشبه اعتداءً عسكرياً واسع النطاق، فيمكن لمجلس شمال الأطلسي أن يقرّر تفعيل المادة الخامسة والدعوة إلى ردّ جماعي، قد يشمل استخدام القوة في حال الضرورة. أما في ما يتعلّق بطبيعة الردّ، فأوضحت غرابار-كيتاروفيتش أنّ الناتو لا يضع مسبقاً قواعد ثابتة أو ردوداً محددة على أيّ هجومٍ سيبراني، بل يتعامل مع كلّ حالةٍ على حدة وفق حجمها وتأثيرها، وأشارت إلى أنّ هذا النهج يمنح الحلف مرونةً أكبر في الاستجابة، ويتيح له تقييم الموقف بدقة قبل اتخاذ أيّ قرارٍ يتعلق بالدفاع الجماعي أو بالردّ العسكري.
أشارت الرئيسة السابقة لكرواتيا إلى أن أحد أبرز التحديات اليوم يتمثّل في غياب الحدود الواضحة للمساءلة في العالم الرقمي، فالدولة، بحسب قولها، “تبقى مسؤولةً عن أراضيها حتى لو انطلقت منها هجماتٌ نفّذتها جهاتٌ غير حكومية، لأن السيادة لا تعني حقوقاً فقط، بل مسؤولياتٍ أيضاً”.
وفي حال لم تتعامل الحكومات مع تلك التهديدات، يصبح التدخل الجماعي من الناتو أو الإنتربول أو الاتحاد الأوروبي أمراً مبرّراً، كما حذّرت من أن هجمات برامج الفدية (Ransomware) باتت “من أكثر الأساليب استخداماً في الصراعات الاقتصادية والسياسية، إذ يمكنها شلّ أنظمةٍ مصرفيةٍ أو منشآتٍ طبيةٍ بأكملها، ما يجعلها تهديداً مباشراً للأمن القومي”.
تطرّقت غرابار-كيتاروفيتش أيضاً إلى المخاطر المتزايدة للتزييف العميق (Deepfakes) والمعلومات المضلّلة، معتبرةً أنها تشكّل “هجوماً على أهم ما تملكه الأنظمة الديمقراطية وهو الثقة”. وقالت إن تجربتها الشخصية كشفت لها مدى هشاشة هذه الثقة، إذ “انتشرت صورٌ وأخبارٌ مزيفة” عنها في فتراتٍ سابقة، وهو ما “يتضاعف خطره اليوم في ظلّ أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على خلق واقعٍ موازٍ بالكامل”.
ورحّبت بالقوانين الأوروبية التي تنظّم استخدام الذكاء الاصطناعي، لكنها شدّدت على أن وجود القواعد “لا يكفي من دون أنظمة استجابةٍ فعالة وتعاونٍ بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب رفع الوعي العام لتمكين المواطنين من التمييز بين الحقيقة والتضليل”.
وفي ما يتعلّق بالشرق الأوسط، رأت غرابار-كيتاروفيتش أن دول مجلس التعاون الخليجي باتت تؤدي دوراً متزايد الأهمية في إعادة تشكيل المشهد الدبلوماسي العالمي، مشيرةً إلى أنّ “المنطقة لم تعد مجرّد جسرٍ جغرافي يربط بين الشرق والغرب، بل أصبحت جسراً سياسياً ودبلوماسياً وتقنياً في آنٍ واحد”.
وأوضحت أنّ دول الخليج تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى مركزٍ رئيسيٍّ للوساطة الدولية وجهود وقف النزاعات، حيث أصبحت أرضاً للحوار وأضافت أنّ هذا الدور يعزّز ما تصفه بـ«الحياد الإيجابي»، القائم على بناء الجسور بدل الاصطفافات، ما جعل الخليج وجهةً أساسية للحوار بين القوى الكبرى.
وأكدت غرابار-كيتاروفيتش أنّ هذا التوجّه لا يقتصر على الدبلوماسية التقليدية فحسب، بل يمتدّ إلى ما وصفته بـ«الدبلوماسية السيبرانية»، أي تعزيز التعاون الدولي في مجالات الأمن الرقمي ومكافحة الهجمات الإلكترونية وتبادل الخبرات التقنية. ورأت أنّ “الاستثمار في الأمن المعلوماتي والبنية الرقمية، إلى جانب الجهود السياسية لحلّ الأزمات، يجعل من المنطقة لاعباً محورياً في صياغة منظومة أمنٍ عالمي جديدة”.