هل سيتم احياء فكرة السكة الحديد بين المدينة المنورة واسطنبول؟

نشر موقع “منتدى الخليج الدولي” مقالًا للباحثة سنيم جنكيز، المختصة في الشؤون الخليجية تدعو فيه لتخيل قطارٍ واصلٍ بين إسطنبول ومدينة خليجية مارًّا بدمشق، وعمَّان، والقدس، والمدينة المنورة، خلال أيام قليلة فقط. وتشير سنيم إلى أنَّ وجود مثل هذا القطار يبدو ضربًا من الخيال مع الظروف الحالية في الشرق الأوسط. لكن منذ أكثر من قرن، حاولت الإمبراطورية العثمانية تحقيق هذا الهدف، بل نجحت لفترة قصيرة، عندما أنشأت خطًّا واحدًا يربط بين هذه المدن التاريخية.

تقول سنيم إنَّه في سبتمبر (أيلول) عام 1900، بناءً على أوامر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، بدأ بناء مشروع سكة حديد بهدفٍ أوليٍّ؛ هو ربط مكة بدمشق، ومن ثم بإسطنبول. وكان هذا المسعى، الذي عُرف في ذلك الوقت باسم سكة حديد الحجاز، حلمًا لعبد الحميد الثاني، الذي أراد إنشاء طريقة ملائمة وفعالة للمسلمين لأداء فريضة الحج إلى مدينة مكة المكرمة في الحجاز، وهي منطقة تقع في غرب المملكة العربية السعودية اليوم.

وكان من المقرر أن يقلل خط القطار الرحلة الطويلة والشاقة للحجاج من دمشق إلى مكة إلى أيام قليلة فقط، ولكن بصرف النظر عن أهميتها الدينية، كانت السكك الحديدية وسيلة لكسب الشرعية السياسية للعثمانيين بين الشعوب التي حكموها وساعدتهم على إبقاء مقاطعات الحجاز البعيدة والمضطربة في بعض الأحيان، تحت السيطرة. وفي وقت من الأوقات، أشير إلى خط السكة الحديد باسم «طريق الحرير الحديدي» نظرًا إلى أهميته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

استغرقت المرحلة الأولى من المشروع من دمشق إلى المدينة ثماني سنوات، من عام 1900 حتى عام 1908. وكانت الخطة مد الخط شمالًا إلى إسطنبول، وجنوبًا إلى مكة نفسها. ولسوء الحظ، لم تصل السكة الحديد إلى مكة قط؛ إذ توقف بناؤها بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي لم تؤد فقط إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية، بل إلى نهاية سكة حديد الحجاز بعد استقلال العديد من الدول على طول الطريق. وخلال الحرب، تعرضت السكك الحديدية نفسها لهجوم شديد من القوات العربية المناهضة للعثمانيين بقيادة الضابط البريطاني تي إي لورنس، المعروف باسم لورنس العرب. وقد صُورت العديد من هذه الهجمات في فيلم ديفيد لين الذي يحمل الاسم نفسه عام 1962.


كان مشروع سكة حديد الحجاز يومًا ما مشروعًا طموحًا، ونادرًا ما يُناقَش اليوم، على الرغم من الإنجاز الضخم الذي جسده. ورأت القوى الأوروبية المشروع غير واقعي، مع اعتقادها بأن الإمبراطورية العثمانية المتداعية (كان يطلق عليها «رجل أوروبا المريض») تفتقر إلى الموارد السياسية والمالية لإكماله. وطوال فترة بناء خط السكة الحديد، عانت إسطنبول من عجز كبير في الميزانية، وقدرت التكلفة الإجمالية للمشروع بـ4 ملايين ليرة عثمانية، أو ما يقرب من 570 كيلوجرامًا من الذهب؛ أي ما يوازي نحو 20% من الميزانية العثمانية بأكملها.

وتضيف سنيم أن أحد الجوانب المثيرة للاهتمام للسكة الحديدية الطريقة التي دُبرت بها تكاليف المشروع. فبالإضافة إلى عائدات الدولة العثمانية وإيراداتها الضريبية، جاء دعم هائل من المسلمين في جميع أنحاء العالم. ومُولت تكاليف إنشاء المسارات والمحطات بالكامل تقريبًا بالمساهمات السخية من جميع أنحاء العالم الإسلامي. وعلى الرغم من أن بناء خط السكة الحديد قد نفذه مهندسون ألمان، وأتراك، وعمال محليون مجندون من المناطق الواقعة على طول الطريق، فقد رُفض رأس المال الأجنبي على وجه التحديد؛ للحفاظ على «قداسة» المشروع، وتمويله بتمويل إسلامي بالكامل. حتى يومنا هذا، يعد المشروع وقفًا، مما يجعله يخص المسلمين جميعًا.

وتعدُّ محطة سكة حديد الحجاز الأثرية الواقعة في الأنبارية بالمدينة المنورة مكانًا ممتازًا للزيارة، حيث تحكي قصة هذه السكة الحديدية التاريخية في عهد الإمبراطورية العثمانية، وكيف عمل سكان هذه المنطقة عملًا جماعيًّا بهوية مشتركة لهدف مشترك. وعلى حد تعبير بن هوبارد، كانت السكة الحديدية “من بقايا الحلم القديم بالوحدة الإقليمية قبل الحروب وتعيين الحدود وظهور وسائل النقل الأكثر تقدمًا”. تشير سنيم إلى أنَّه بعد عام 1918، جرت عدة محاولات لإعادة فتح طريق الحجاز، وأصلحت الأضرار التي لحقت بالمسارات خلال الحرب، ووصل القطار إلى المدينة المنورة مرتين، مرة في عام 1919، والثانية عام 1925.

ولكنَّ المحطة توقفت في المدينة لأسباب فنية، رغم أنَّ المحطات الأخرى في سوريا، والأردن، ولبنان، وعلى طول ساحل البحر الأبيض المتوسط ظلت في الخدمة مؤقتًا. واستمرت محطة الميناء في لبنان التي افتتحت عام 1911 في العمل حتى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. وعلى الرغم من انتهاء الحرب في عام 1989، فلم تُبذل أي جهود لإحياء عمليات السكك الحديدية داخل لبنان.

وفي عام 1904، بعد أربع سنوات من إنشاء خط دمشق، بني 460 كيلومترًا من الخط الحديدي الذي يربط الخط بالأردن، ثم رُبط خط السكة الحديد بالبحر الأبيض المتوسط عبر حيفا، وهي الآن مدينة في فلسطين المحتلة.

واليوم في الأردن، لا تزال هناك أقسام قليلة من السكك الحديدية تعمل. أحدها قطار أسبوعي يعمل على مدار العام من عمَّان إلى محطة الجيزة، بينما يمر الآخر عبر الصحراء في وادي رم (وهو الخط نفسه الذي هاجمه لورنس العرب ذات مرة).

كان للخط الذي يمتد من دمشق إلى المدينة المنورة أيضًا خط فرعي يؤدي إلى ميناء حيفا على البحر المتوسط، داخل دولة الاحتلال. وكان هذا الخط يعمل حتى عام 1948، عندما أدى إعلان قيام إسرائيل إلى حرب مع جيرانها العرب. وفتحت إسرائيل قسمًا أعيد بناؤه من خط السكة الحديد الممتد من حيفا إلى بيت شئان في عام 2016. مثل الأردن ولبنان. وشاركت إسرائيل أيضًا في جهود لإحياء خط السكة الحديد، وتتواصل مع الأردن والسعودية لهذا الغرض.

تذكر سنيم أنَّه في السنوات الأخيرة أطلقت تركيا مبادرات دبلوماسية لدول المنطقة لإحياء طريق الحجاز، وفي عام 2018، بعد توقيع بروتوكول في بيروت، أخذت على عاتقها مهمة تجديد محطة قطار في طرابلس اللبنانية، الواقعة على طول خط السكة الحديد. وقبل ذلك بعامين، وقعت تركيا بروتوكولًا مع الحكومة الأردنية لإعادة محطة على خط السكة الحديد نفسه. وتضمنت عملية الترميم، التي مولتها وكالة التنمية التركية (تيكا)، بناء متحف جديد في المحطة لإحياء ذكرى تاريخ السكك الحديدية.

وقد أبدت دول أخرى اهتمامها بالاعتراف بخط سكة حديد الحجاز، وإعادة تدشينه في نهاية المطاف. وفي عام 2015، تقدمت السعودية بطلب إضافة السكك الحديدية إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو، وهي مدرجة في «القائمة المؤقتة» للتراث العالمي لليونسكو منذ أبريل (نيسان) 2015.

وعلى الرغم من أن المملكة لم تختر مواصلة الخدمة على طول الخط مثل الأردن، فإنها تعُد السكة الحديدية جزءًا من تراثها. وفي عام 2009، وافقت تركيا والسعودية على ترميم خط سكة حديد الحجاز وإعادة بنائها. في ذلك الوقت، قال وزير النقل التركي آنذاك، ابن علي يلدريم: “عندما تجتمع هذه الدول الأربع (تركيا والأردن وسوريا والمملكة العربية السعودية)، سننتهي من المشروع بأكمله”.

لكن سنيم تستدرك بأنَّ الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط تحول دون إعادة تأهيل السكة الحديدية بالكامل. فقد انطلق آخر قطار متجه إلى سوريا من محطة قطار عمان عام 2011، وتوقفت الخدمة المنتظمة بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا. وأشارت تقارير حديثة إلى أن النظام السوري سلم المبنى التاريخي لمحطة سكة حديد الحجاز في دمشق لشركة خاصة منذ 45 عامًا، فحولته إلى فندق سياحي ومركز تجاري.

ويبدو أن تصرفات سوريا تنتهك المبدأ القائل إن كل محطة على طول الخط الأصلي تنتمي إلى المجتمع الإسلامي الجماعي الذي موَّل تأسيسها. وفي الأردن، على سبيل المثال، تعود ملكية محطة السكة الحديد لوزارة الشؤون الإسلامية، ولا يمكن بيعها للقطاع الخاص بسبب ارتباط السكك الحديدية بالحج إلى مكة.

وتختتم سنيم بأنَّه كتطور مأساوي في التاريخ، كانت دمشق أول محطة على خط السكك الحديدية التاريخي. ومن الصعب تصديق أن القطار يمكن أن يسافر مرة أخرى من دمشق إلى المدينة المنورة في أي وقت قريب، كما يصعب تخيل أن دول المنطقة، وبالتحديد تركيا، وسوريا، والأردن، وإسرائيل، والسعودية، يمكنها أن تعمل معًا جماعيًّا لإحياء المشروع. ومع ذلك، من المهم الحفاظ على تراث سكة حديد الحجاز حيًّا، مع الاعتراف بأهميته التاريخية وقدرته على ربط المدن والشعوب المتباينة. إنها بالفعل أكثر من مجرد سكة حديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *