
حدد الرئيس المؤسس للمجلس الوطني للعلاقات الأميركية الليبية، البروفيسور هاني شنيب، 5 أسباب وراء فشل الجهود السابقة التي بذلها المجتمع الدولي في ليبيا، من بينها عدم معالجة جذور الانقسام السياسي، بالإضافة إلى تنامي دور المجموعات المسلحة، وانشغال الليبيين أكثر بالحياة المعيشية الصعبة، وظهور صراعات عالمية لفتت الانتباه بعيدا عن الأزمة في ليبيا، فضلاً عن فقدان الثقة في دور الحكومات الغربية تجاه البلدان النامية.
جاء ذلك في مقال رأي نشره موقع المجلس الأطلسي (أتلانتيك كاونسيل) حول التطورات الأخيرة في ليبيا. ورأى شنيب أن الليبيين باتوا ينظرون إلى مسألة الانتخابات التي يروج لها الغرب في ليبيا على أنها جزء من استراتيجية لإضفاء الشرعية على حكومة تخدم المصالح الأجنبية بدلاً من تلبية احتياجات الليبيين للاستقرار وبناء المؤسسات.
وبحسب البروفيسور الليبي، فإن الليبيين لا يثقون في أن الانتخابات التي تجرى في ظل الظروف الحالية – التي تتسم بغياب الأسس الدستورية، والفساد المستشري، والاعتقالات القسرية، والشوارع التي تهيمن عليها الميليشيات وأمراء الحرب – يمكن أن تؤدي إلى نتائج نزيهة.
وعلى الرغم من ذلك، يستبعد شنيب إجراء انتخابات في المستقبل القريب، مشيرا إلى أن الدول الأخرى مع حل الوضع في ليبيا، تعاملت تاريخيا، بعقلية ما الذي سأستفيده أنا؟، مما يسلط الضوء على كيفية تشكيل المصالح الوطنية والإقليمية لمحاولات التغيير، خاصة في سياق ليبيا.
في الوقت الراهن، يرى البروفيسور الليبي أن دوافع التدخل الدولي في ليبيا تتشكل من خلال ثلاثة شواغل رئيسية، أولها القلق الأوروبي من الحجم الهائل للهجرة غير الشرعية التي تتدفق عبر الحدود الليبية التي يسهل اختراقها وتداعياتها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية الكبيرة.
وثاني الشواغل، هو حالة القلق من احتمال تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية في دول شمال أفريقيا والساحل، مما قد يقوض المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى في المنطقة، وثالثها، القلق من أن الدولة الفوضوية والهشة قد تسمح للكيانات الإرهابية بالازدهار والانتشار، مما قد يؤدي إلى تصاعد التهديدات الأمنية.
وفي نظر المجتمع الدولي، فإن هذه المخاوف تتطلب التعامل مع سلطة مركزية في ليبيا، بغض النظر عن الشرعية المتصورة للسلطة أو قيمتها الحقيقية بالنسبة للشعب الليبي وبناء مؤسساته، بحسب شنيب، الذي يرى أن هذه العوامل أدت، في جزء منها، إلى سلسلة من المقترحات وخرائط الطريق التي لم توضع بشكل جيد والتي طرحتها الأمم المتحدة وأيدتها الجهات الدولية الفاعلة، والتي لم تسفر عن تقدم يذكر، بل زادت من حدة الانقسامات التي تشهدها ليبيا اليوم.
يسرد البروفيسور الليبي أسباب هذا الفشل من خلال ملاحظاته عبر زياراته المتكررة إلى البلاد ومحادثاته مع القادة والسياسيين والأكاديميين الليبيين.
أول هذه الأسباب، أن ثمة جذورا تاريخية للانقسام لم تجر معالجتها بعد، ما أفشل المحاولات العديدة التي قام بها العديد من ممثلي بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لإشراك الجهات الفاعلة الليبية في مختلف خرائط الطريق لتحقيق الاستقرار على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية.وذهب إلى استحالة تصور إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية فعالة في المستقبل القريب دون الاعتراف بهذه الجذور التاريخية للانقسام.
أما ثاني الأسباب، فيتمثل في أن الجهات السياسية والأمنية الفاعلة على الأرض في كلتا المنطقتين في ليبيا استغلت هذه الانقسامات لمصلحتها السياسية والمالية من خلال التحالفات مع الميليشيات المستفيدة ورجال الأعمال الفاسدين والأثرياء الجدد والمهربين عبر الحدود. ووفق شنيب، يؤثر هذا المزيج من الميليشياوية الجديدة والكلبتوقراطية بشكل كبير على القرارات السياسية والأمنية في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية في ليبيا، مما يضمن لهم البقاء في السلطة في المستقبل المنظور.
وثالث الأسباب وراء فشل الجهود الدولية يتمثل في أن الشعب الليبي مشغول بالبقاء على قيد الحياة يوماً بعد يوم ويفتقر إلى الوسائل اللازمة للتعبير عن سخطه، وذلك بعد 42 عاماً من القمع وإهدار الحقوق والديمقراطية في عهد القذافي، و14 عاماً إضافية من الفقر وانعدام الأمن بعد انهيار مؤسسات الدولة في عام 2011.
يحدد البروفيسور الليبي رابع العوامل في ظهور صراعات عالمية أكثر إلحاحًا وتحوّل أولويات المجتمع الدولي على مدى السنوات الأربع الماضية، لا سيما مع التركيز على أوكرانيا وجنوب شرق آسيا، وهو ما قد قلل من الاهتمام والموارد المخصصة للوضع الليبي، على الرغم من حقيقة أن الغرب يشعر بالقلق من النمو الهائل للنفوذ الروسي والصيني في ليبيا والقارة الأفريقية بشكل عام.
وخامس العوامل وراء فشل الجهود الدولية يتمثل، بحسب شنيب، في أن سكان العديد من البلدان النامية، لا سيما في الشرق الأوسط وأفريقيا (بما في ذلك ليبيا)، يرون أن الحكومات الغربية فقدت بوصلتها الأخلاقية ولم يعد بالإمكان الوثوق بها كراعية للتغيير الديمقراطي والإنساني.
وأشار إلى تفاقم هذا التصور بسبب الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني في غزة، والتي فشلت دول الغرب في منعها أو دعمتها علناً، وبالتالي، أصبحت قدرة الغرب في نظر الشعب الليبي على التوصية أو الإشراف أو المساهمة في أي مبادرات ديمقراطية أو مبادرات بناء الدولة في نظر الشعب الليبي في خطر.
ورأى شنيب، في مقاله المنشور بموقع المجلس الأطلسي، أن واحدا من النجاحات القليلة التي تحققت في ليبيا منذ عام 2020 (وهو العام الذي شهد نهاية الحرب الأهلية التي قسمت البلاد إلى مناطق شرق وغرب مدينة سرت)، أن الخط الفاصل بين البلاد أصبح أكثر وضوحًا. ويلفت الانتباه إلى أن ليبيا باتت تشهد حكومتين، وهيئتين تشريعيتين فعليًا، وكيانين أمنيين يتحكمان في العمليات السياسية والاقتصادية واليومية في مناطق كل منهما.
ومن المفارقات، على الرغم من الجهود الأولية الموحدة لمعالجة الوضع الكارثي في أعقاب عاصفة دانيال في عام 2023، والتي أودت بحياة ما يقرب من 12 ألف شخص، فإن فرص إعادة الإعمار الضخمة في المناطق أدت بدلاً من ذلك إلى مزيد من التجزئة في عملية صنع القرار وتمويل المشاريع، وقد أدى هذا التمويل الضخم والمشاركة المتوقعة من الشركات الدولية والحكومات إلى ترسيخ الانقسام في ليبيا، بحسب البروفيسور الليبي.
ودلل شنيب على ذلك بأن ليبيا حاليًا باتت كيانا قائما على دولتين بحكم الأمر الواقع، مشيرا إلى أن حكومة الوحدة الوطنية الموقتة موجودة في المقام الأول للسماح للمجتمع الدولي وشركاته بتعزيز مصالحهم الخاصة، دون أن تعالج الحقائق المعقدة على الأرض في ليبيا.
وأضاف أن الأطراف الدولية الفاعلة مثل الصين وروسيا وغيرهما تتحرك داخل ليبيا دون الاكتراث بقضايا الهجرة أو أمن الحدود، وتركز أكثر على المشاركة الاقتصادية الاستراتيجية مع أفريقيا، وهذا يقوض المصالح الأوروبية والأميركية مستغلين جمود الغرب وافتقاره إلى استراتيجية واضحة وانخراطه في ليبيا، بحسب قوله.
وأشار كذلك إلى خيبة أمل الليبيين من دور المجتمع الدولي والأمم المتحدة، حيث باتوا يقبلون حاليا بشكل تدريجي الأمر الواقع الحالي في البلاد ويتأقلمون معه في كل جانب من جوانب حياتهم اليومية تقريباً.
وأوضح أن تعيين المبعوثة الأممية الجديدة هانا تيتيه جاء بعد الكثير من الجدل بين الولايات المتحدة وروسيا، مما يشير مرة أخرى إلى أن المصالح الأجنبية ستستمر على الأرجح في الهيمنة على المحادثات حول الحلول الخاصة بليبيا. واختتم شنيب بأن ليبيا تحتاج إلى أفكار جديدة وإرادة وطنية ودولية لإعادة تحديد مسار واقعي نحو دولة حديثة.