قصة منع «آخر المعجزات».. الرقابة تُظهر «كراماتها» في الجونة

بعد رحلة ثلاث سنوات استغرقها المخرج عبد الوهاب شوقي في صنع فيلمه الأول الروائي القصير «آخر المعجزات»، وقبل أيام من خروج الفيلم إلى النور في افتتاح الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي، صُدم شوقي ومعه الوسط السينمائي المصري، بمنع عرض الفيلم في ظروف غامضة، تركت الجميع للتكهنات، واستُبدل الفيلم بآخر كرواتي، دون الكشف عن الأسباب الحقيقية.

دفعنا هذا الغموض حول منع الفيلم في اللحظات الأخيرة قبل انطلاق المهرجان، إلى التواصل مع عدة مصادر من مهرجان الجونة السينمائي والأوساط السينمائية، وممن شاهدوا الفيلم وشاركوا في مفاوضات الإفراج عنه من الرقابة، حاولنا بالطبع الحصول على أجوبة من صناع الفيلم أنفسهم، ولكن فضلوا عدم التعليق بأي شكل عن الفيلم وقصة منعه.

يروي مصدر من العاملين بمهرجان الجونة، بعدما طلب عدم ذكر اسمه، رحلة الفيلم من اختياره في الجونة إلى منعه، وكانت البداية في يوم 29 سبتمبر الماضي، حين أعلنت إدارة مهرجان الجونة في مؤتمر صحفي عن افتتاح الدورة السابعة بعرض الفيلم الروائي القصير «آخر المعجزات»، للمخرج عبد الوهاب شوقي، والمقتبس عن قصة نجيب محفوظ «معجزة»، من مجموعته القصصية «خمارة القط الأسود»، الصادرة في 1969، وجاء الإعلان عن عرض الفيلم قبل الحصول على تصريح بالعرض من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، بسبب حالة اليقين والاطمئنان لدى إدارة المهرجان، لعدم وجود مشكلات رقابية أو محتوى شائك في الفيلم يستدعي القلق.

حصل سيناريو الفيلم على موافقة الرقابة دون أي ملاحظات، وهي النقطة التي أكدها الجميع بمن فيهم مخرج الفيلم في تدوينة له على حسابه بفيسبوك، ولكن المثير للاستغراب، بحسب رواية المصدر، هو انتظار رئيس جهاز الرقابة، خالد عبد الجليل، إلى يوم 17 أكتوبر -أي بعد ما يقارب من 20 يومًا من الإعلان عن عرض الفيلم- لإخطار مهرجان الجونة «بشكل غير رسمي» بمنع عرض الفيلم، واشترط عليهم اختيار فيلم آخر بدلًا منه، حتى يخرج المشهد كأنه «قرار فني» من المهرجان وليس من الرقابة.

ذكرت المصادر منفردة لـ«مدى مصر» أن خالد عبد الجليل مارس ضغوطًا على إدارة المهرجان لاختيار فيلم آخر، لأنه اعتبر عدم اختيار بديل للفيلم في الافتتاح، بمثابة موقف تضامني واعتراضي من المهرجان، وهو ما سيعتبره تصعيد منهم. حاولت إدارة المهرجان مع العديد من الوسطاء لاحتواء القصة وحل الأزمة وديًا، وطلبوا من الرقابة تحديد المشاهد أو الأسباب التي تدعو إلى المنع لحذفها من الفيلم، ولم تتجاوب الرقابة معهم، وانتهت المفاوضات في يوم 22 أكتوبر بإلزام المهرجان بالإعلان عن استبدال الفيلم «لأسباب لوجستية وفنية»، وتبرير ذلك القرار بأن الفيلم غير مكتمل، دون الحديث عن الرقابة، ولكن بعد تسريب الخبر، اضطرت إدارة المهرجان لإصدار بيان أشارت به إلى «تعذر عرض» الفيلم، دون الكشف عن الأسباب.

أحد المصادر من الفاعلين في الوسط السينمائي، والذي عمل في تنظيم عدة مهرجانات، رأى  أن عبد الجليل، اتخذ موقف شخصي عدائي ضد المهرجان، ربما لإعلانهم عن الفيلم دون الحصول على موافقته النهائية، أو لاستعراض السيطرة وتكدير أجواء المهرجان، مستندًا لاختياره توقيت رفض الفيلم قبل أيام من المهرجان، لإرباك المهرجان و«لي ذراعهم»، فيما تتهرب الرقابة إلى الآن من إعلان مسؤوليتها أو إصدار قرار رسمي، حتى إنها أخبرت الجميع بأن هذه القصة تخص المهرجان فقط ولا علاقة للجهاز بها من الأساس، ولم تجد الرقابة مبررًا واضحًا أو ملاحظات على قصة الفيلم ومشاهده للاعتراض عليها.

ولكن ما الذي استندت عليه الرقابة لمنع الفيلم وإسكات المهرجان بهذه الطريقة؟ الإجابة كانت «لا يوجد سبب مقنع»، وهو ما فتح الباب أمام التساؤلات والتكهنات، واتفقت المصادر أن قرار المنع جاء لتجنب أي جدل أو تأويلات محتملة قد تنتج عن الفيلم، من باب الاحتياط، تماشيًا مع مبدأ «ابعد عن الشر وغنيله». أراد عبد الجليل بهذا القرار إراحة الرقابة من أي «دوشة» أو نيران عكسية ولو بنسبة ضئيلة نظرًا لاستعداده للتقاعد خلال أشهر قليلة، راغبًا في ترك الخدمة في سلام.

حصرت المصادر ثلاثة أسباب محتملة للهواجس، أولها أن مشاهد الفيلم صورت في منطقة المقابر التاريخية، والتي تزيلها الدولة مؤخرًا، وهو ما قد يفسره البعض بأنه موقف مقصود من الفيلم لتوثيقها قبل هدمها -رغم أن الفيلم بدأ العمل به قبل الإزالة بثلاث سنوات- والسبب الثاني هو أن قصة الفيلم تدور حول شخص «يقدم كرامات»، ولكن في النهاية تتضح أنها خدعة وكرامات وهمية، مما قد يفتح الباب للتأويلات السياسية.

أما السبب الثالث، والذي أكده لنا مصدر بمهرجان الجونة، أن عبد الجليل أخبرهم بأن قراره بمنع الفيلم جاء لحماية المهرجان من «إثارة الفتنة والبلبة»، وذلك بعد حديث عبد الجليل مع وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو حول الفيلم، ورأى الاثنان أن عرض فيلم عن الصوفية والإسلام في مهرجان «به مسيحيين»، أمرًا حساسًا للغاية، لذلك لا مانع من تفعيل وضعية «ابعد عن الشر وغنيله». لكن مصدر آخر من الوسطاء قال إن عبد الجليل زعم تواصله مع وزير الثقافة، الذي تخوف من عرض الفيلم. 

تشكك بقية المصادر في صحة ما نقله عبد الجليل على لسان وزير الثقافة، ولكن ذلك لا ينفي دور الوزير في قصة المنع، خاصة بعد وصلة العتاب التي قدمها الناقد طارق الشناوي للوزير شخصيًا في افتتاح مهرجان الجونة. 

واتفق الشناوي مع المصادر السابقة في عدم وجود أسباب مقنعة للمنع، وقال في مقاله في صحيفة «المصري اليوم» إن الرقابة: «ترفع شعار (لا تقربوا الشبهات). أى عمل فنى يحمل بصيصًا ما أو هامشًا ما أو حتى قراءة ما، على الفور وآخذا بالأحوط (الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح).. شاهدت الفيلم مثنى وثلاث ورباع، ولم أجد لا فى اللقطات ولا بين اللقطات، ما يمكن أن يثير غدة المنع».

مخرج الفيلم، عبد الوهاب شوقي، أكد على هذا الجانب في تعليقه عبر صفحته بفيسبوك على أزمة الفيلم، في رسالة وصفها بـ«الشخصية وليست بيان صحفي»: «قولت أنا لازم أعمل كل شيء صح وللآخر، أخذت بجميع الأسباب الفنية واللوجستية، دخل السيناريو للرقابة وتمت إجازته دون ملاحظة واحدة، عملت في النور تمامًا ودفعت كافة رسوم التصاريح للدولة ونقاباتها ما يزيد عن 10% من ميزانية تصويري، اللي كل جنيه فيها كان بيفرق معايا، أخدت حقوق كل شيء في الفيلم رسميا قصة وأغاني بمفاوضات شاقة.. كنت مصمم كل شيء في الفيلم يبقى قانوني ورسمي بلا أي حيل».

وهو نفس ما قاله أحمد صيام، الممثل في الفيلم، في تصريحات مع صحيفة «الشروق»، الذي صُدم لكونها المرة الأولى في حياته التي يتعرض عمل له للمنع: «مندهش من القرار، فالفيلم لا يتعرض لأي قضايا سياسية أو أخلاقية أو دينية، أو أي محاذير رقابية، حتى يواجه اعتراض من أي نوع».

بوستر الفيلم

اتفق الجميع على أن الفيلم «سليم ومسالم»، وأن صمت صناع العمل دليل على عدم رغبتهم في خوض معركة أو جعل الفيلم «ضحية للمنع» ويتخذ بذلك أشكالًا سياسية غير مقصودة ولا مرغوب بها، خاصة أن عدد من صناع الفيلم مرتبطون بأعمال أخرى مع مهرجان الجونة، في الوقت نفسه المهرجان يتحاشى إثارة الجدل، لأنه لم يتعاف حتى الآن من آثار ضجة فيلم «ريش» في 2021، والذي تعرض لتأويلات سياسية غير متوقعة، وأخيرًا الرقابة أو خالد عبد الجليل الذي يرغب أيضًا في ترك الخدمة دون مناوشات.

اتفق معظم من تحدث إليهم  «مدى مصر»، أن القصة كلها في يد عبد الجليل نفسه، لأنه من افتعلها بدلًا من تمرير الفيلم القصير بشكل روتيني، وفرض على الجميع «هواجسه» وأهوائه الشخصية، معتمدًا في ذلك على حساسية منصبه الذي يجعله على اتصال مع الجهات الأمنية والأزهر وغيرها من الجهات الرقابية الأعلى سلطة، ويستخدم هذا الأمر في الإيحاء بخطورة قرارات المنع، ولكن في النهاية معظم هذه القرارات نابعة منه شخصيًا، تمامًا مثلما حدث مع فيلم «الملحد»، حيث أجاز سيناريو الفيلم بالفعل ولكن قرر منع عرضه بحجة «اعتراض الأزهر»، وهو ما جعل منتج الفيلم، أحمد السبكي، يذهب إلى مؤسسة الأزهر لعرض الفيلم وإجازته، قبل اكتشاف أن الأزهر لا يتخذ موقف من الفيلم أساسًا، ولكن عبد الجليل لجأ إلى شيوخ أزهر ومنهم خالد الجندي لتشكيل لجنة مع الرقابة لمراجعة الفيلم ومنعه.

كرر عبد الجليل هذه الطريقة عدة مرات من قبل، بإصدار قرارات منع شفوية وغير رسمية وغير معروفة المصدر والمبررات، تجعل صناع الأعمال في حيرة وغموض ويضطرون إلى اختراع المبررات لتجنب غضب الرقابة، مثلما حدث مع فيلم «عيسى»، الذي استبعد بنفس الإجراءات من مهرجان القاهرة للفيلم القصير العام الماضي، وأجبر عبد الجليل صناع الفيلم على تحمل مسؤولية التبرير بأن «خطة توزيع الفيلم تغيرت» وتبرئة الرقابة، وذلك لأن الفيلم تدور قصته حول لاجيء، ومن الأسلم عدم التعرض للاجئين في هذا الوقت الحساس.

وروى أحد المُخرجين السينمائيين لـ«مدى مصر»، بعدما طلب عدم ذكر اسمه، أن عبد الجليل منع من قبل فيلمًا أجنبيًا في مهرجان القاهرة، في اللحظات الأخيرة، بسبب وجود قُبلة بالفيلم، وابتكر في الدورة الأخيرة في المهرجان نظام عرض الأفلام للنقاد فقط ومنعها عن الجمهور، ولا يكتفِ بذلك، بل يحضر بنفسه إلى المهرجان للتأكد من قراراته و«تخويف» إدارات المهرجانات، وهو ما فعله مؤخرًا بوجوده في مدينة الجونة لحضور حفل الافتتاح ومشاهدة الفيلم الكرواتي مع الحضور والسينمائيين، بعد منعه «آخر المعجزات»، وكأن شيئًا لم يكن. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *