تعيش أمنية محمود، إحدى قاطني مدينة الحسينية بمحافظة الشرقية المصرية، قلقاً دائماً في هذه الفترة من كل عام، إذ تحرص على إحكام إغلاق نوافذ منزلها خوفاً من تسلل أدخنة حرق قش الرز التي تغطي سماء المدينة.
ولا يزال كثير من المزارعين المصريين يلجأون إلى وسيلة الحرق، على رغم الدعوات المتكررة إلى التخلص الآمن من القش، متجاهلين التوجيهات الحكومية المستمرة، خصوصاً في المحافظات التي تتوافر بها مساحات واسعة مزروعة رزاً، وهي كفر الشيخ والشرقية والغربية والدقهلية (شمال مصر).
تقول أمنية لـ”اندبندنت عربية” إنه “على رغم حرصنا على إغلاق نوافذ المنزل، فإن الروائح الخانقة تتسلل إلى الداخل، نشعر بالاختناق بسبب الأدخنة المنبعثة من المزارع المحيطة بمكان سكني، التي تزيد كثافتها عند غروب الشمس، ابنتي التي لم يتجاوز عمرها شهراً أصيبت بالتهاب رئوي نتيجة هذه الأدخنة.”
وقبل أيام أعلن جهاز شؤون البيئة بالشرقية تحرير 267 محضراً ضد مزارعين لحرقهم قش الرز، توزعت على مراكز أبو حماد (95) وبلبيس (88) وكفر صقر (30) والحسينية (23) وأولاد صقر (21) وفاقوس (10).
وعلى رغم التحسن الملاحظ الذي يلمسه سكان القاهرة خلال السنوات الأخيرة، إثر تفعيل نظام التخلص الآمن من قش الرز واستغلاله في تصنيع الأعلاف عبر تسليمه لمتعهدين متخصصين، فإن بعض المزارعين ما زالوا يصرون على حرقه، وبحسب شهادات جمعتها “اندبندنت عربية” يعتقد هؤلاء أن الحرق “يحسن جودة التربة، ويعد بديلاً للأدوية التي يشكون عدم فعاليتها”، زاعمين أنها “مغشوشة”.
عادة متأصلة
الأسباب التي تدفع المزارعين المصريين إلى حرق قش الرز يتطرق إليها حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين في مصر، “حرق القش أصبح عادة متأصلة بين المزارعين، لم يعد الأمر مقصوراً على قش الرز فقط، بل يشمل جميع المخلفات الزراعية، إذ يلجأ المزارعون إلى حرقها بهدف تحويلها إلى سماد للتربة، وتنظيف الأرض من الحشرات، وتوفير كلفة جمع القش”.
وأرجع أبو صدام، في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، سبب الأزمة إلى “استسهال المزارعين”، إذ يعتبرون تحويل قش الرز إلى علف “غير مفيد للحيوانات، مما يدفعهم إلى الحرق، والأسعار الزهيدة التي يباع بها القش لا تشجع المزارعين على الامتناع عن حرقه، إضافة إلى أن صغر المساحات الزراعية يجعلهم يفضلون الحرق لتوفير جهد الجمع، مع علمهم بأن العائد المادي غير مجز”.
يعتبر المزارعون تحويل قش الرز إلى علف غير مفيد للحيوانات مما يدفعهم إلى الحرق (رويترز)
الطرق الأكثر اتباعاً في عملية الحرق، وفقاً لنقيب الفلاحين، توضح أن المزارع “لا يحرق كل القش، بل يحرق البقايا فقط”، ملقياً الضوء على “ارتفاع كلفة النقل إلى المكابس، بينما لا يدفع المشترون ثمناً مجزياً لقش الرز”.
وفي الـ19 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، جرى رصد ثلاث حالات حرق مكشوف لقش الرز في قريتي ميت معاند وشيوة بمحافظة الدقهلية، إذ تحركت لجنة متابعة حرائق قش الرز لإطفاء الحرائق، وتحرير محاضر بيئية للمزارعين المخالفين. وفي تصريحات سابقة أشار نائب محافظ الدقهلية أحمد العدل إلى الآثار السلبية لحرق قش الرز في البيئة وصحة المواطنين، موضحاً أن ذلك يزيد من نسب الإصابة بالأمراض الصدرية والتنفسية.
وفي أغسطس (آب) الماضي وصف محافظ كفر الشيخ علاء عبدالمعطي حرق قش الرز في محافظته بـ”الظاهرة”، مشدداً على اتخاذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين، مؤكداً رصد تلك الممارسات باستخدام التكنولوجيا الحديثة، مثل صور الأقمار الاصطناعية وأجهزة تحديد المواقع على الخرائط، مع تطبيق الغرامات المقررة على المخالفين.
معتقدات خاطئة
وحول تعدد أسباب حرق القش، يقول أحد مزارعي الرز في مصر خيري فراج إن عديداً من المزارعين يلجأون إلى حرق القش بسبب “سوء نوعية الأراضي وانتشار الحشائش”، معتقدين أن الحرق يحسن من جودة التربة.
يضيف خيري لـ”اندبندنت عربية” أن “كلفة تنظيف الأرض من الحشائش تصل إلى 250 جنيهاً (5 دولارات أميركية) يومية للعامل الواحد لمدة خمس ساعات عمل، وعليه إذا كان المزارع يمتلك فداناً واحداً، فإنه يحتاج إلى خمسة عمال لإزالة الحشائش، مما يكلفه 1250 جنيهاً (26 دولاراً أميركياً)، مما يبرر عدم استجابتهم إلى دعوات التخلص الآمن من قش الرز”، مضيفاً “الأدوية المستخدمة لمكافحة الحشائش إما مغشوشة وإما تحتوي على مواد فعالة ضعيفة، مما يجعل الحرق خياراً ملائماً وأقل كلفة للمزارعين”.
أصبح حرق القش الرز عادة متأصلة بين المزارعين المصريين. ويشير الباحث بمركز البحوث الزراعية محمد إبراهيم إلى أن “هناك اتجاهين، الأول يتمثل في تحويل القش إلى سماد، والثاني حرقه في الأرض”، مضيفاً في حديثه إلى “اندبندنت عربية” أن “في محافظات مثل الشرقية يتجه المزارع إلى الحرق، لأن كلفة الصناعة مرتفعة، وعدد محدود يتجه إلى صناعة الكمبوست (سماد عضوي صناعي) من قش الرز”.
ويوضح الباحث المصري أن المساحات الكبيرة لزراعة الرز في بعض المحافظات تجعل هناك مخالفات من المزارعين تظهر في الهواء لعدم قدرة الأجهزة الحكومية المختصة على السيطرة الكاملة، كما أن عملية النقل من الأرض إلى المكابس “ارتفعت كلفتها”، لافتاً إلى ضرورة أن يكون هناك توجه من الدولة لـ”تصنيع الكمبوست الزراعي من قش الرز، بديلاً بيئياً مثالياً لتقليل استخدام الأسمدة الكيماوية”.
ويؤكد أستاذ الدراسات البيئية عبدالمسيح سمعان أن هناك اتجاهاً من الدولة لـ”التدوير الكامل لقش الرز”، لكن “الرقابة غير كافية لمنع هذه الممارسات، وعملية الحرق تكون في أوقات يصعب اكتشافها”، مضيفاً “بسبب عدم وجود مكابس كافية لتغطية جميع المناطق المزروعة ستظل المشكلة قائمة”.
ويضطر المزارع إلى عملية الحرق للتخلص من القش، لكن يجري جمعه بصورة جيدة مقارنة بالماضي، بحسب سمعان الذي دعا إلى ضرورة العمل على إقناع الفلاح بعدم حرق قش الرز، مع توعيته بتأثيره في الصحة، بخاصة في ظل تيارات الهواء غير القوية التي تزيد من أخطار الملوثات.
أستاذ الأراضي والمياه عبدالمنعم نصر يرى أن “السبب الرئيس لاستمرار حرق الرز هو قلة التوعية”، مسلطاً الضوء على خطورة استخدامه علفاً للحيوانات، موضحاً في حديثه إلى “اندبندنت عربية” أن “قش الرز ثروة قومية يجب استغلالها بصورة جيدة، والاتجاه لتغذية الحيوانات باستخدام مكابس لطحن القش وتحويله لعلف لكنه مضر للحيوانات، لكن المشكلة أنه بحاجة إلى جهد في تجميعه، مما يدفع بعضهم إلى الحرق، والاتجاه نحو التصنيع لا التدوير هو الحل الأمثل”.
وأوضح كبير خبراء إدارة المشاريع والمياه والزراعة بالأمم المتحدة أحمد فوزي دياب أن الفلاحين يلجأون إلى حرق القش “عندما لا يجدون من يجمعه، والفلاح يعتبر أن حرق القش يطهر التربة، لكن هناك متعهدون لجمع القش يتجهون إلى عدد من المناطق لجمع المخلفات الزراعية، وعلى رغم ذلك بعض المزارعين يضطرون إلى الحرق”.
وأشار دياب إلى أن “هناك خططاً وأهدافاً من الدولة للتخلص الكامل من قش الرز، لكن يوجد أيضاً انفصام بين الواقع والتطبيق. الفلاح يريد احتكاكاً مباشراً بالجهات الحكومية، وبعض المزارعين يستغلون غروب الشمس للحرق حتى تنعدم الرؤية، ولا يعرف أحد مصدر الحرق، واستخدام القش علفاً قلل من حرقه وتأثير السحابة السوداء”.
من أجل ضبط التصرفات المتوارثة بين المزارعين، شدد نقيب الفلاحين على ضرورة تعزيز التوعية والإرشاد حول الاستفادة المثلى من قش الرز، إضافة إلى ضرورة تحديد أسعار مناسبة لبيع القش، مؤكداً أهمية إقامة مشاريع تسهم في استخدامه بصورة أفضل سماداً أو علفاً، داعياً إلى تشديد العقوبات على المخالفين، إذ إن العقوبات الحالية “ليست رادعة بما يكفي لمواجهة جسامة الفعل”، موضحاً أن المزارعين غالباً ما يستغلون وقت غروب الشمس للحرق.