سيول الصعيد تُنذر: شيءٌ ما .. يتغير

الشهر الماضي ، انقلب الطقس فجأة على أهالي مركز باريس في محافظة الوادي الجديد، بعدما هبّت رياح عاتية أعقبتها أمطار غزيرة، لم يتوقعوها في هذا الوقت من السنة، بهذه الكثافة والمدى الزمني، حيث استمرت عدة أيام بدأت في الرابع من أغسطس، مخلفة وراءها مئات المنازل في حالة يرثى لها، بحسب عدد من أهالي تلك القرى تحدثوا إلى «مدى مصر».

في التوقيت نفسه، تعرضت محافظات أخرى في الصعيد لتلك الأمطار، التي سرعان ما تحولت في بعض المناطق إلى سيول جارفة، كما حدث جنوبي أسوان والبحر الأحمر، مخلفةً وراءها أضرارًا كبيرة؛ من انهيار أسقف منازل وسقوط أعمدة إنارة، إلى انقطاع الكهرباء والمياه لفترات طويلة، وتلف الأجهزة الكهربائية، وتدمير الطرق. لم يتم تسجيل أي وفيات رسميًا، فيما رصدت الجهات المعنية بعض الإصابات.

الأمطار الغزيرة والسيول ظاهرة لا تتكرر بشكل دوري في مصر، لكنها مألوفة في مناطق معينة. ومع ذلك، تبدو أمطار وسيول هذا العام مختلفة.

«إحنا متعودين السيول تحصل في مناطق محددة من أسوان وحتى حلوان، والصحراء الشرقية وساحل البحر الأحمر وسيناء ومرسى مطروح، خلال الفترة بين سبتمبر لحد مايو، لكن معدلات حدوثها مش منتظمة، ممكن يحصل سنة وخمس سنين لأ، وهكذا»، يقول أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عباس الشراقي، مضيفًا أن مشهد السيول المبكرة في أغسطس كان مفاجئًا، خاصةً في منطقة العوينات التي لم تشهد أمطارًا مشابهة منذ عقود.

تحدث «مدى مصر» مع عشرة متخصصين في مجالات مختلفة في محاولة لتفسير هذه الظاهرة، إلّا أن الآراء تباينت. اعتبرها البعض تقلبات طقسية عادية، بينما رأى آخرون أنها مرتبطة بتغيرات مناخية، فيما قال مصدران إنه من السابق لأوانه تفسير أسباب هذه السيول دون دراسة كافية وبحث علمي معمق، خصوصًا في ظل نقص البيانات المتاحة.  

الهيئة العامة للأرصاد الجوية فسرت حدوث السيول بزحزحة «الحزام المداري» للأمطار، الذي عرّفته بأنه «خط وهمي عند خط الاستواء»، يفصل بين الكتل الهوائية الشمالية الجافة والجنوبية الرطبة، و يتذبذب شمالًا وجنوبًا مع حركة الشمس باختلاف الفصول. تلاقي هذه الكتل يؤدي إلى تكاثر السحب الرعدية التي تسبب سقوط أمطار غزيرة عند منابع النيل في السودان وإثيوبيا. واعتبرت الهيئة أن السيول الأخيرة معتادة، حسبما قالت في بيانها، وهو ما أكده رئيس الهيئة الأسبق، محمد عيسى، والمدير السابق لمعهد الأراضي والمياه التابع لوزارة الزراعة، علاء البابلي، في حديثهما مع «مدى مصر».    

تزحزح أحزمة المطر وتسببها في سقوط أمطار صيفية لمدة ثلاثة أسابيع يؤكد أننا مقبلون على طفرات مناخية حادة، نتيجة لتغيرات المناخ، بحسب ما قاله رئيس مركز معلومات تغير المناخ بوزارة الزراعة، محمد فهيم، لـ«مدى مصر». 

يتفق الشراقي مع فهيم، مشيرًا إلى العلاقة بين التغيرات الأخيرة في أنماط المطر وظاهرة «النينو»، وهي ظاهرة مناخية طبيعية تحدث بشكل دوري كل عدة سنوات، وتؤثر على المناخ العالمي، متسببة في تغيير مسار الأمطار المدارية. وتحدث «النينو» عندما ترتفع درجات حرارة سطح المياه في المحيط الهادئ، ما يؤثر على أنماط الطقس العالمية؛ مثل الجفاف في بعض المناطق وزيادة الأمطار والسيول في مناطق أخرى. ورغم أن هذه الظاهرة معتادة، لكن هناك نقاش علمي حول تأثير الاحتباس الحراري على تواترها وحدّتها. 

أحمد القناوي، أستاذ الجغرافيا الطبيعية بجامعة المنصورة، ، أوضح لـ«مدى مصر» أن ما أسماه هجرة جبهة الالتقاء المدارية غير معتاد، ويحدث على سنوات متباعدة، مرجحًا أن يكون أحد أسباب الزحزحة هو أن صيف 2024 أحد أشد السنوات حرارة في التاريخ البشري المرصود، لكنه شدد على أن مثل هذا الربط لا يزال مبكرًا، ويحتاج دراسات تفصيلية للوقوف على العلاقة بين التطرفات الحرارية، ونطاق حركة جبهة الالتقاء المدارية، وبالتالي فرص سقوط أمطار صيفية.

لا يبدو أن هناك إجابة واضحة ومحددة بشأن أسباب تطرف الطقس في مصر خلال هذا الوقت من السنة، في ظل تباين التحليلات وندرة الدراسات والبيانات الخاصة، وبالتالي يصبح السؤال بشأن استعدادات الدولة لأي تطورات درامية على هذا الصعيد، مشروعًا. 

السيول هي أمطار غزيرة تسقط خلال مدة قصيرة، لكن التضاريس الجغرافية تحولها لسيول، إذ تتجمع الأمطار فوق قمم الجبال أو المناطق المرتفعة ثم تندفع بسرعة نحو المناطق المنخفضة والوديان. للمياه المندفعة من أعلى قوة كبيرة يمكنها أن تجرف معها وتدمر كل ما يعترض طريقها. لذلك، تكون المناطق الواقعة عند سفوح الجبال أو في الأودية أكثر عرضة لخطر السيول، حسبما أوضح رئيس مركز معلومات تغير المناخ لـ«مدى مصر». 

وتتعرض مصر لثلاثة أنواع مختلفة من الأمطار، وفقًا للقناوي، أستاذ الجغرافيا الطبيعية، النوع الأول هو الأمطار الشتوية، وتؤثر بشكل رئيسي على السواحل الشمالية الغربية، وأجزاء واسعة من الدلتا وشمال سيناء. عادةً، هذه الأمطار لا تؤدي إلى سيول إلا في حالات نادرة، عندما يتزحزح مسار المنخفضات الجوية جنوبًا باتجاه الأراضي المصرية.

النوع الثاني، هو الأمطار الفجائية التي تحدث نتيجة لتكّون عواصف مدارية فوق البحر الأحمر، خاصةً في فصلي الربيع والخريف، وغالبًا ما تكون قصيرة الأمد ولكنها شديدة التأثير، خاصةً في الصحراء الشرقية وجنوب سيناء. 

أما النوع الثالث، والذي حدث مؤخرًا، فهو الأمطار الصيفية النادرة التي تحدث نتيجة لتحرك جبهة الالتقاء المدارية (ITCZ) شمالًا نحو مدار السرطان. هذه الجبهة عادةً ما تكون متمركزة حول خط الاستواء أو في نصف الكرة الجنوبي، لكن في بعض السنوات تتحرك شمالًا، كما حدث هذا العام.

وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، شهد جنوب مصر حوادث كارثية جرّاء السيول، كان أعنفها سيول مدينة سفاجا، عام 1994، التي راح ضحيتها 600 مواطن، وسيول عام 2010، التي ضربت أسوان والبحر الأحمر وسيناء، وخلفت 12 قتيلًا وعشرات المصابين، بعدما دمّرت مئات المنازل، وألحقت أضرارًا بالغة بالمحاصيل والبنية التحتية من طرق وشبكات كهرباء ومحطات مياه. وبعد ست سنوات، ضربت السيول مدينة رأس غارب بالبحر الأحمر، لتدمر مئات المنازل، وتقتل عشرات المواطنين بخلاف المفقودين، وتصيب المئات، كما دمّرت الطرق بما فيها المؤدية للمدينة، ما تسبب في حصار أهالي رأس غارب بين السيول، عدة أيام، قبل وصول الجهات المعنية. 

تصب مياه تلك السيول في البحر المتوسط وخليجي العقبة والسويس عبر أكثر من 800 مخر سيل رئيسي على مستوى الجمهورية؛ منها 414 في الصحراء الشرقية، و114 في سيناء، و157 واديًا في الساحل الشمالي، و156 أخرى في منطقة وادي النيل. 

يقول الشراقي إن «السيول كارثة طبيعية، ولو كبيرة جدًا صعب أقدر أواجهها، بس أقدر أقلل أضرارها. لكن العيب لما يبقى سيل بسيط ويتسبب في كارثة زي سيول رأس غارب، المفروض نكون دايمًا مستعدين».  

التدخل الهندسي لمواجهة السيول يتضمن شقين رئيسيين، حسبما أوضح أحمد صالح، مهندس متخصص في هيدرولوجيا السيول، لـ«مدى مصر»، الشق الأول، يتمثل في بناء السدود والبحيرات لتخزين المياه، ما يقلل من تدفقها بشكل مفاجئ ويقلص الأضرار. الثاني، هو توجيه المياه إلى مسارات آمنة باستخدام قنوات أو مجارٍ صناعية، لتجنب تدفقها إلى المناطق السكنية. وداخل المدن، يُعتمد على إنشاء شبكات صرف مياه الأمطار، وهي عبارة عن شبكة من المواسير تُجمّع مياه المطر وتوجهها إلى مناطق منخفضة، حيث يتم تصريفها بشكل آمن دون التأثير على المناطق السكنية والبنية التحتية.

بالإضافة إلى ذلك، من المفترض أن تتبع وزارة الري والوحدات المحلية بعض الإجراءات لضمان إدارة السيول بشكل فعال؛ مثل تنظيف مجاري السيول بانتظام، وصيانة القنوات والمجاري المائية، وضمان عدم بناء المنازل عند مسارات ومخرات السيول، وتطوير أنظمة إنذار مبكر للتنبؤ بالسيول وتحذير السكان، حسبما أوضح رئيس هيئة الأرصاد السابق، فيما تختص الوحدات الصحية بتوفير الأمصال الطبية للدغات العقارب والثعابين.

في قرية أبو الريش بحري بأسوان، التي تقع عند مخر سيل، لم تكن الأمطار الغزيرة التي انهمرت بين السادس والثامن من أغسطس الجاري مدمرة، مقارنة بسيول عام 2021، ولكنها جلبت معها معاناة من نوع آخر. في ظل التشققات التي أصابت جدران المنازل، لجأ العديد من الأهالي إلى الشوارع خوفًا من انهيارها تحت وطأة الأمطار، وبينما كانوا يحاولون التكيف مع الوضع، واجهوا تهديدًا آخر، إذ تعرض بعضهم  للدغات العقارب والثعابين التي أخرجها السيل من أوكارها، وطارت بفعل الرياح لتنتشر على سطح الأرض، زاد الوضع سوءًا إغلاق الوحدة الصحية بالقرية بسبب أعمال التجديد الجارية ضمن برنامج «حياة كريمة»، حسبما قالت الحاجة حنان إحدى سكان القرية لـ«مدى مصر». 

المبادرة الفردية وحدها أنقذت حيوات الكثيرين في وادي العلاقي، الذي يقع جنوبي شرق أسوان، ويُعرف بكونه منطقة نائية غنية بالذهب والمعادن، حيث لاحظ مهندس يشرف على عمليات تنقيب في المنطقة، بحكم خبرته الطويلة في المنطقة، تكاثف الغيوم وزيادة نسبة الرطوبة قبل أسبوعين من هطول الأمطار، فبادر بطلب الأمصال المضادة للدغات الثعابين والعقارب من الوحدة الصحية ووزّعها على العمال، حسبما قال لـ«مدى مصر».

وقت السيل، تحاصر المياه -يصل منسوبها أحيانًا إلى مترين- المنقبين، ما يضطرهم لمواجهة المخاطر بوسائلهم الخاصة، إذ يكون الوصول إلى الرعاية الطبية والأمصال صعبًا، ما يُجبر المنقبين على الاعتماد على العلاجات الشعبية. «بنفتح مكان اللسعة ونحط عليها زيت وليمون. مع العقارب والتعابين، العلاج بيكون بسيط، الواحد بيسخن يومين وبعدها يخف، اللي بنقلق منه الطريشة، اللي تلسعه رحمة الله عليه كده»، يوضح منقب غير رسمي، طلب عدم ذكر اسمه. 

هشاشة المباني تزيد الطين بلة. «معظم البيوت في الوادي الجديد معمولة من الطوب اللبن والجريد والطين، في كل قرية ممكن يكون فيه 3 أو 4 بيوت بالطوب الأحمر والحديد»، يقول عبد الرحمن مدني، مهندس زراعي بمركز باريس. 

يرى مهندس هيدرولوجيا السيول، أن منع البناء في مناطق مخرات السيول هو الأساس لأنه يعيق التدفق الطبيعي للمياه فيضاعف من خطر الفيضانات والسيول،  فيما يمكن السماح ببعض الاستثناءات بشرط إجراء دراسة هندسية وبيئية مسبقة لحماية المكان والسكان، واتخاذ تدابير هندسية دقيقة لضمان تصريف المياه بشكل آمن، لكنها تتطلب خططًا أكثر تعقيدًا وتكلفة، حسبما قال صالح. 

ومع ذلك، للسيول منافع إذا تم الاستعداد لها بشكل مناسب. 

حملت السيول الأخيرة نحو 2.5 مليار متر مكعب من المياه، وفقًا لبعض التقديرات، وهي غالبًا ما تضيع دون استغلالها، نظرًا لارتفاع معدلات التبخر والتسرب في التربة، بحسب القناوي، الذي أوضح أن الكميات الهائلة التي تجلبها السيول يمكنها المساهمة في مواجهة أزمة نقص المياه التي تعاني منها مصر إذا تمت إدارتها بشكل ملائم.

لتحقيق ذلك وتوفير بعض الحماية وتقليل الخسائر، يمكن الاستعانة بأنظمة الإنذار المبكر التي يمكنها التنبؤ بالظواهر المناخية ومن ضمنها السيول. والتنسيق بين جهات مختلفة مثل هيئة الأرصاد ووزارات الري والبيئة والزراعة وغيرها، لمد الجهات المعنية بالمعلومات لاتخاذ الإجراءات اللازمة لسلامة المنطقة وسكانها، بالإضافة إلى الاستفادة من المياه، حسبما يوضح البابلي، الرئيس السابق لمعهد بحوث الأراضي والمياه. لكن التكلفة المرتفعة لأنظمة الإنذار المبكر تحول دون توافرها بشكل كافٍ، خصوصًا في الدول النامية مثل مصر، وفقًا لبيان صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء. 

من ناحية أخرى، يعتمد التنبؤ بالكوارث المناخية عمومًا بشكل أساسي على دقة النماذج الرقمية المُطورة على مستوى محلي، والتي يتم تطويرها والتحقق منها عبر مدها ببيانات دورية للطقس ودرجات الحرارة وغيرها من المحطات الأرضية، لتقديم توقعات دقيقة. لكن هذا النوع من التغذية المستمرة بالمعلومات لا يحدث بالشكل المطلوب في مصر بسبب نقص البيانات وقلة الأبحاث العلمية في هذا المجال، حسبما قال باحث في قطاع المياه، طلب عدم ذكر اسمه. 

البيانات التي تُغذي أجهزة الإنذار المبكر، تأتي  بشكل أساسي من محطات الرصد الموزعة في مناطق مختلفة، لكنها لا تغطي مصر بشكل كافٍ، فضلًا عن أنها حديثة نسبيًا، لذلك لا تتوفر بيانات دقيقة تاريخيًا لتغذية أجهزة الإنذار المبكر ما يجعل عملية التنبؤ أقل دقة، بحسب عيسى، الرئيس السابق لهيئة الأرصاد الجوية، الذي أوضح أن المحطات الصحراوية تنتشر على مسافات شاسعة تصل إلى 500 كيلومتر، ما يعني أن بعض الظواهر قد تحدث دون أن تُلتقط، مضيفًا أن المحطات الحالية تراقب الأحوال الجوية في نطاق محدود، يصل إلى حوالي 20 كيلومترًا فقط، ما قد يؤدي إلى تفويت بعض الظواهر الجوية الهامة. 

ربما لو كان لدينا مثل هذا الإنذار المبكر، لاستطاعت أسرة مصطفى هاني، حماية منزلها في قرية عدن التابعة لمركز باريس، ولم تفقد جميع الأجهزة الكهربائية ومخزون القمح الذي يعتمدون عليه طوال العام. ربما احتفظ والد مصطفى بساقه الصناعية التي فقدها خلال هرولته للهروب من المنزل خشية انهيار سقفه الخشبي.. ربما نجت مئات المنازل في قرى «باريس» الثماني، المبنية على الطريقة الفلاحية من الطوب اللبن والأسقف الخشبية، ويسكنها أكثر من 15 ألف نسمة، من ضربات أمطار مطلع أغسطس.

السيول الأخيرة تعد جرس إنذار بأن شيئًا ما يتغير، ورغم أن الضرر قد يكون محدودًا هذه المرة، فإن عدم التعامل الجاد مع هذه التغيرات ودراستها بشكل معمق قد يؤدي إلى كوارث أكبر في المستقبل، خاصة مع ما نعرفه عن تسارع وتيرة التغيرات المناخية عالميًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *