السودان: جثث مبعثرة على الطرقات ومقابر داخل المنازل

تعددت مظاهر الأسى والفواجع نتيجة المجازر والفظائع التي ارتكبتها قوات “الدعم السريع” في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، إذ لم تترك في أحياء المدينة سوى مشاهد الدمار والحريق وأصوات الرصاص، حتى بات الموت على كل باب ممكناً في كل لحظة وبكل الأشكال. ولا تزال جثث الموتى ترقد في الشوارع داخل الفاشر، وأخرى في الطريق إلى محلية طويلة بعد تعثر الوصول إليها بسبب خطورة الوضع الأمني، في وقت مات فيه آخرون بمضاعفات الحزن قبل نهاية رحلة النجاة.

وسط هذه الأجواء، قالت تنسيقية لجان مقاومة الفاشر، إنه “لا يزال هناك عالقون داخل المدينة والجثث على الطرقات بين الفاشر ومحلية طويلة في أوضاع مأسوية تستدعي تدخلاً عاجلاً”. وناشدت غرفة طوارئ طويلة وجميع الجهات الإنسانية والطبية تشكيل فرق إنقاذ واستجابة سريعة للقيام بانتشال الجثث ودفنها بشكل لائق وإنساني، وتقديم الإسعافات الأولية وإنقاذ المصابين إن وجدوا، وكذلك تنسيق الجهود مع المتطوعين على مستوى الشوارع والمناطق الواقعة بين الفاشر وطويلة.

يقول المواطن السوداني إبراهيم طه، إنه “تعرض خلال رحلة خروجه من الفاشر وحتى وصوله إلى منطقة طويلة لسلسلة مرعبة من المواقف والأخطار، بخاصة في ظل انتشار عناصر ’الدعم السريع’ بالأحياء الطرفية للمدينة”. وأوضح أن “أكثر ما يؤلم الفارين من المجازر هو منظر الجثث المبعثرة في الشوارع داخل المدينة وخارجها وصولاً إلى الأحياء الطرفية في طريق الوصول إلى بلدة طويلة”.

ولفت الانتباه إلى أن “الهاربين من جحيم ’الدعم السريع’ باتوا عاجزين عن القيام بأي خطوة تجاه المئات من الجثث، وليس لديهم الوقت الكافي لدفنها بسبب أخطار القتل والتصفية التي يقوم بها أفراد تلك القوات”. وأردف، “أنه أمر محزن للغاية أن تصبح عاجزاً عن دفن جثث الأقارب والأصدقاء وتتركهم للكلاب تنهش وتلتهم جثثهم”.

بدوره أشار عامر فاروق الذي فر من الفاشر نحو منطقة مليط إلى أن “عدد الجثث المنتشرة في شوارع المدينة يقدر بالمئات بعدما ارتكبت ’الدعم السريع’ مجازر وتصفيات ميدانية وحشية في حق المدنيين”. ولفت إلى أنه “غادر الفاشر قبل شروق الشمس مع مجموعة من جيرانه، وفي الطريق وجدوا أنفسهم أمام كومة من الجثث البشرية بعدد 20 جثة يبدو أن أصحابها قضوا قبل نحو ثلاثة أيام، وآخرون قبل أسبوع بالنظر إلى مستوى تحللها، إذ لم يستطع المتطوعون الوصول إليها لدفنها”.

وقال فاروق أيضاً، “خلال الأيام الأولى لاقتحام ’الدعم السريع’ لعاصمة ولاية شمال دارفور دفن عشرات الأشخاص في بيوتهم بعد تعثر وصول المواطنين إلى المقابر داخل المدينة”. في السياق أوضح الناشط المجتمعي حمدان عمر أن “المتطوعين وجدوا صعوبة في التنقل عبر الشوارع لانتشال الجثث بسبب الأخطار والقتل والمجازر اليومية، وعلى رغم تلك العقبات تمكنوا من دفن 14 جثة في الطريق بين الفاشر وبلدة طويلة”.

ونوه بأن “إدارة الجثث تجري عبر فرق الطوارئ المدربة على العمل حتى تتمكن من عملية الدفن بطريقة جيدة وفي وقت محدد خصوصاً في ظل انتشار عناصر ’الدعم السريع’ بالطرقات والأخطار التي تحيط بالمتطوعين”.

ويعتقد الناشط المجتمعي أن “وجود ممرات آمنة يساعد في انسياب العمل بصورة فعالة، ويمكن الوصول إلى كل الجثث داخل الفاشر وحتى في الطريق نحو منطقة طويلة، ومن ثم إنقاذ عاصمة ولاية شمال دارفور من كارثة بيئية محتملة حال تحلل كثير من الجثامين”. وأشار إلى أنهم “يقدمون للمتطوعين أزياء وقائية وتجهيزات لجمع وحفظ الجثامين بسلامة”.

إلى ذلك حذر الناشط الحقوقي عماد فضل الله، من اشتداد ظاهرة عمليات الانتقام والعنف المفرط التي تمارسها قوات “الدعم السريع” تجاه المدنيين العالقين في الفاشر والفارين نحو مناطق النزوح، وتصفية عديد منهم بصورة محزنة وقاسية.

ولفت فضل الله إلى ضرورة الانتظام في عمل دؤوب للتعقيم وتوثيق الجثامين قبل دفنها، في ظل التعقيدات الكبيرة التي تكتنف عملية التعرف على أصحابها، متوقعاً ظهور مزيد من الجثامين التي ستكشف عنها الأيام نتيجة تواصل عمليات القتل الجماعي والمجازر اليومية.

وتوقع الناشط أن “تتضاعف أعداد الجثث في الفاشر وطرق النزوح نحو بلدة طويلة، إذ لا يزال هناك عديد من الجثث التي يجري العثور عليها، ربما لها علاقة مباشرة بمعتقلين ومفقودين قضوا بالإهمال أو جرت تصفيتهم وإخفاء جثثهم، مما تسبب في تحللها التام بصورة تصعب من التعرف عليها من دون تحاليل علمية معمقة”.

على الصعيد نفسه، حذر الناشط البيئي عمران سعد، من تفاقم الوضع داخل الفاشر وفي القرى المحيطة وتحوله إلى كارثة حقيقية في ظل استمرار القتل والتصفيات اليومية، إذ تحللت الجثث وأصبح الناس يشكون الروائح الكريهة المنبعثة منها، لكن الأخطر من كل ذلك هو انتشار الأمراض والأوبئة المختلفة”.

وقال، “بات خطر الجثث من أكبر التحديات البيئية والصحية التي تواجه مدينة الفاشر والقرى المحيطة بها في الوقت الحالي، وتضعها وجهاً لوجه أمام خطر الطاعون، ويشمل ذلك أيضاً أولئك الذين يحملون السلاح، وعليهم أن يعلموا أنهم مهددون بسبب الوضع أكثر من تهديد السلاح نفسه”.

وتوقع سعد حدوث تداعيات صحية وبيئية كبيرة لهذه المشكلة، فمئات الجثث داخل الفاشر وخارجها لم يعد ممكناً الوصول إليها، وحتى لو جرى ذلك فسيكون قد فات أوان معالجة الأمر بعدما تحللت الجثث داخلها وتحولت إلى معضلة حقيقية.

ودعا الناشط البيئي إلى ضرورة التحرك العاجل لمعالجة ما يمكن تداركه لتخفيف الآثار البيئية والصحية عبر نقل الجثث ودفنها بخاصة في الطريق إلى منطقة طويلة الذي يعد أكثر أماناً من داخل الفاشر. وناشد سعد قيادة “الدعم السريع” أن “تتفهم هذا الوضع الكارثي الذي سيؤثر فيهم أنفسهم أكثر من الآخرين، لذلك فإن الأمر بات يتطلب من شدة خطورته. تدخل المجتمع الدولي بصفة عاجلة للحفاظ على حياة المواطنين والبيئة”.

على نحو متصل، قال المتخصص في الوبائيات خالد دهب إن “الكارثة الصحية داخل الفاشر والقرى المجاورة باتت وشيكة، مع غياب أي إجراءات عاجلة لحلها، منوهاً بأن استمرار عمليات القتل الجماعي والمجازر اليومية سيؤدي حتماً وقريباً إلى ظهور وانتشار الأمراض الوبائية الخطرة، نتيجة توافر البيئة المثالية والمواتية، لا سيما بعد تحلل مئات الجثث”.

وأوضح أنه “وعلى رغم من شروع عدد من المتطوعين من الشباب، في عمليات جمع الجثث ودفنها في القرى المحيطة بالفاشر، فإنها لم تتمكن من الوصول إلى كثير منها في مناطق لا يمكن الوصول إليها، خصوصاً داخل مدينة الفاشر بسبب المجازر والفظائع التي ترتكبها ’الدعم السريع’، فضلاً عن أخطار القصف وعمليات التصفية والاعتقال”.

ونوه دهب بأن “عدم دفن الجثث منذ اليوم الأول لدخول ’الدعم السريع’ الفاشر تسبب في تحلل كثير منها في الشوارع والأزقة وتحت الأنقاض، مخلفة روائح كريهة وباتت نهباً للقطط والكلاب الضالة”.

ووفق الأمم المتحدة فقد فر من مدينة الفاشر منذ استولت عليها قوات “الدعم السريع” أكثر من 65 ألف شخص، بينما لا يزال عشرات الآلاف عالقين داخلها، وخلال الأيام الخمسة الماضية استقبلت بلدة طويلة أكثر من 5 آلاف نازح، وهناك آلاف تقطعت بهم السبل في منطقة قرني (13 كيلومتراً من الفاشر) بعضهم مرضى وجرحى وأطفال انفصلوا عن أسرهم، وعند مدخل بلدة طويلة أنشأت منظمة “أطباء بلا حدود” مركزاً صحياً يقدم خدمات الطوارئ والجراحة لاستقبال المرضى الذين يعاني معظمهم إصابات ناجمة عن إطلاق النار والتعذيب.

انديبندت عربية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *