
بعد مرور 10 أعوام على ذروة توافد المهاجرين إلى أوروبا، أنجز فريق مهاجرنيوز سلسلة من التقارير في الأماكن التي ارتبطت بموجة الهجرة تلك. في هذا التقرير، عدنا إلى قرية صغيرة في شمال اليونان يعيش فيها حوالي 100 شخص، توافد إليها خلال عامي 2015 و2016 أكثر من 13 ألف مهاجر بمعرض سعيهم إلى إكمال طريقهم نحو بلدان أوروبا الغربية.
في يوم مشمس حار، ووسط موسيقى يونانية تقليدية تتردد على مسامع من يأتي إلى مطعم ومقهى فاغليس الوحيد على مدخل قرية إيدومني، يجلس بابلو، ذو القميص القطني الأحمر على إحدى طاولات شرفة المطعم، حيث يمضي ساعات مع آخرين من سكان القرية الصغيرة يأكل طعامه التقليدي ويدخن.
يتذكر بابلو ما مر على القرية قبل 10 سنوات. ويروي، وبدا على كفيه الضخمين الإنهاك وكذلك حال رفيقه الجالس قبالته، كيف أمضى سنوات شهدت هجرة واسعة نحو أوروبا، لكن بالنسبة لحجم القرية المتناهي في الصغر البالغ عدد سكانها نحو 100 شخص، كان ذلك تدفقا مهولا لا مثيل له للمهاجرين في عام 2015.
“خفنا كثيرا في البداية. لم نكن جاهزين لذلك. كانوا ألوفا من الأشخاص. لكن مع الوقت، بنى أهل القرية علاقة معهم، واستقبل أشخاصٌ من القرية منهم. استقبلت أنا عائلة في بيتي ليومين، كانوا سوريين يتكلمون اليونانية، أب وأم وأربعة أطفال. الآن هم في ألمانيا، ولا زلت أتواصل معهم“.
مثّل عام 2015 انطلاقة جديدة لبابلو في العمل، فقد افتتح حينها ملحمة قبالة المطعم والمقهى الوحيد في القرية، واستمر وجودها بالتزامن مع وجود المهاجرين الكثيف في المنطقة حتى أغلقها بعد أربع سنوات. وبعد الصدمة الأولى للتدفق “أصبح الأمر مفيدا لنا بشكل عام. ما يُجنى يوميا كان قد تضاعف مرات عدة. فُتحت نقاط لبيع الطعام، خصوصا السندويشات، وحاجيات أساسية عند الحدود في خمس شاحنات متحركة. كان لدي واحدة منها وهناك تعرفت على العائلة السورية“.
ويكمل بابلو حديثه “كان صاحب المطعم هنا يساعدهم ويعطيهم الطعام من الباب الخلفي. كان هؤلاء المهاجرون يقفون بطوابير طويلة جدا قبل 10 سنوات للحصول على الطعام. كان يأتي صحافيون إلى هنا أيضا ويستفيدون من خدمة الإنترنت والطعام. عائلة فاغليس ساعدته أيضا في تحضير الطعام وآخرون من أهل القرية أحيانا. البلدية أيضا ساهمت بدفع الأموال وتأمين الحطب للتدفئة“.
ويقول بابلو أيضا متفهما وضع من مروا في القرية سعيا للوصول إلى دول أوروبية أخرى، “أجدادي من تركيا. 90 بالمئة من سكان القرية أتوا من أماكن أخرى. أعرف جيدا ماذا يعني ذلك وما هي الصعوبات التي تعترض من يعيش في مكان جديد. أحيانا كان هناك عنف ولكن كوننا من نفس الخلفية فإننا نتفهم ونعذرهم. موسم الذرة عادة يأخذ وقتا لينفد، لكن في 2016، قضى المهاجرون على الموسم في يومين. ووعدت البلدية بتعويض المزارعين ولم توف بوعدها“.
يقول تاسوس، ذو الـ70 عاما والذي ولد في القرية، أثناء تناوله الطعام قبالة صديقه حيث يقضون ساعات كل نهار، “مخيم نيا كافالا القريب كان مكتظا جدا، لذلك كان المهاجرون متواجدين في كل مكان، لكن بعد ذلك تم إغلاق محطة القطار القريبة عام 2016 وحتى وقتنا هذا”. يؤكد تاسوس أن بعض المهن ازدهرت في القرية في تلك الفترة، منها الحلاقة، وبيع بعض مستلزمات المهاجرين، مثل مخزن كان مخصصا لبيع أكياس النوم والخيام فقط، “حتى أنه تواجد فرع لبنك لكنه أغلق لاحقا”، حسبما يقول مؤكدا على ما ذكره صديقه. ويضيف “كان هناك أكثر من 100 حافلة في اليوم لنقل المهاجرين من المخيم إلى الحدود بسبب اكتظاظه“.
ديميتريس أيضا، الرجل الستيني من أهل القرية، روى كيف استقبل في بيت أهله المهجور عائلة سورية كردية مدة شهرين ونصف منذ آذار/مارس عام 2016، وكيف خلال هذه الفترة كثيرون حاولوا الدخول إلى البيت، بسبب البرد القارس، ومن ثم سلمته العائلة مفتاح البيت وخرجت. يقول “كنت قد أردت المساعدة، لكن هناك قلة قليلة افتعلوا المشاكل واحتلوا بيوتا وسرقوها”. وترك البيت مهجورا ومغلقا منذ ذلك الحين. ويقول أيضا “كنا نخاف في السابق لكن الآن لم نعد كذلك. إذا عادت مشكلة الهجرة لن نخاف كما في السابق“.
هذه النظرة التي يفوق فيها الإيجابي على السلبي تجاه تلك المرحلة من سكان القرية، لم تعكسها شرطية عاشت تفاصيلها يوما بيوم وطبعت حياتها وآلمتها حتى بعد نحو 10 سنوات من خلال عملها. تقول مفضلة عدم ذكر اسمها، مقارنة بين اليوم والماضي “الآن الأمور جيدة، لا يحدث شيء بالمقارنة مع تلك الفترة. ربما نستطيع القول إن هناك نحو ألف مهاجر يتواجدون في المنطقة في الشهر، لم يعد هناك الكثير من السوريين كالسابق، هناك أفغان. يجري تفتيشهم، ومن لديه تسجيل دخول غير نظامي أو أمر بمغادرة البلاد خلال شهر لا يتم توقيفه، لكن من ليس لديه أوراق نهائيا يتم توقيفه“.
تضيف مفصلة خصوصية مكان القرية بالنسبة لمجمل اليونان “المنطقة هنا هي هضبة ويسهل الدخول إليها. كانت المنطقة نقطة تقاطع، فبعد دخول المهاجرين من الجزر، يأتون جميعهم إلى هنا بغاية العبور. وكأنه ممر مغلق، وصل عدد الوافدين إلى هنا في 2016 إلى أكثر من 13 ألف مهاجر. لا يمكنني وصف ما كان يجري حتى الآن. كان الوضع مجنونا. كان فظيعا. لم يكن هناك أي شيء منظم. كانت الحافلات والمنظمات تعمل بشكل عشوائي، لم تنظم وزارة الهجرة أي شيء“.
واجهت شرطة مكافحة الشغب اليونانية طالبي لجوء يائسين يحاولون العبور إلى شمال مقدونيا من إيدوميني في ديسمبر/كانون الأول 2015. فرضت مقدونيا الشمالية قيودًا حدودية جديدة تحد من قبول طالبي اللجوء من السوريين والعراقيين والأفغان. المصدر: وكالة فرانس برس
تشرح أكثر هول ما أطلقت عليه وصف “الجنون والهول” قائلة “المشاكل والشجارات لم تكن فقط بين المهاجرين، بل بين الجميع. كانت الشجارات تحدث بشكل متكرر. كان المهاجرون في كل مكان عند الحدود وقرب محطة القطار بالقرية. الأغلبية الساحقة من المهاجرين كانوا مسالمين ولا يريدون أي نوع من المشاكل. لكن قلة قليلة كانت تفتعل الإشكالات. في بعض المواقف، مثل شجارات تجعلنا عالقين بينهم، قام مهاجرون بحمايتنا“.
تكمل الشرطية ولا يزال التأثر باديا على ملامحها، كأنها عاشت ذلك أمس وليس قبل 10 سنوات، محاولة تماسك أعصابها والحفاظ على ابتسامتها “أعتقد أننا كنا قد تعودنا على العنف. لقد أصبح في حياتنا اعتياديا. عنف حتى تجاه الأطفال. كل ليلة كنت أرى الكوابيس. أعتقد أنني أعيش صدمة (تروما) دائمة. كنت أتألم كيف ينام أطفالي بسلام بينما أطفالهم مشردون ويبقون في البرد وسط الغابة. لسنا مهيئين لشيء كهذا“.
أظهرت المرأة لفريق مهاجرنيوز فيديو كانت أعدته مع زميلة لها جمعتا فيه سلسلة من الصور التي راجت خلال عامي التدفق وأرفقتاه بموسيقى صاخبة وحزينة. في إحدى اللقطات، تظهر هي بزيها الشرطي الكامل ودرعها وخوذتها، عالقة بين مهاجرين وسط دخان الغاز المسيل للدموع. صور أخرى لشرطي يدفع المهاجرين بدرعه بعنف. يظهر في الفيديو خصوصا أطفال وسط أهاليهم وهم يصرخون أثناء مواجهات مع الشرطة. في إحدى اللقطات، يظهر طفل في صندوق مفتوح. روت الشرطية كل هذا بصوت مرتجف دون إعطاء تفسيرات بشأن هذه الصور وأطفأت سيجارتها بيدها النحيلة وغادرت مسرعة للعودة إلى عملها.
أثناء حديث الشرطية، وفي غضون وقت قصير، أتى إلى المطعم عسكريان من ليتوانيا يعملان في وكالة حرس الحدود والسواحل الأوروبية “فرونتكس” وعناصر شرطة محليون، لتناول أطباق يعدها فاغليس ومساعدته مالينا من الخضار المقلي واللحم المشوي والسلطة اليونانية التقليدية، فيما يبدو إيقاعا هادئا يوميا في القرية التي يعيش فيها بضع عشرات من السكان.
ورغم السن الكبير لأغلب من يقطنون في إيدوميني، والذين غادر أولادهم للعمل والدراسة في المدن، بضع أطفال يعيشون في القرية. الأطفال هم من عائلة واحدة ألبانية الأصل مكونة من جدة وأب وأم وأربعة أطفال، أعمارهم 14 و11 و7 وسنتين ونصف، يعيشون فيها منذ 25 عاما.
الأطفال ولدوا في القرية. الابنة البكر فاسيليكي اسمها على اسم الجدة ذات الـ78عاما، تذهب مع أخوتها إلى مدرسة في قرية أخرى “أكسيوبديس”، على بعد ثلاث أرباع الساعة في الباص ويعودون إلى القرية يوميا. يضجر الأولاد في هذه القرية الصغيرة النائية حيث لا أطفال غيرهم لإمضاء الوقت والتسلية بعد المدرسة. ليس لهم سوى بعض الدجاجات التي يربونها في حديقة المنزل الخلفية، وشرفة المنزل الأمامية التي تشبه الصالون، حيث الأرائك متوجهة نحو الشارع وطاولة السفرة مجهزة للأكل وسط دستة من الكراسي البلاستيكية.
جالسين على الشرفة، يروون كيف عاشوا تلك السنوات، تقول الجدة بصوت عال “لقد كانوا كثيرين جدا، كانوا كثيرين في كل مكان”. تؤكد ابنتها القول ذاته، “كنا خائفين، لأننا لا نعرفهم، لا نعرف ماذا يريدون”. وتضيف “كنا نعطيهم الخبز والطعام، كان البرد قارسا والمطر غزيرا”. تشتكي الجدة وابنتها “لقد سرقوا الدجاج من البيت، ورغم ذلك استمرينا بمنحهم الطعام“.
يغيب الصبي ذي السنتين ونصف عند مكان تواجد الدجاج بضع دقائق ثم يعود ملاعبا أخوته، تركض فاسيليكي الحفيدة نحوه ضاحكة، تحمله وكأنه لعبة غالية عليها، وتقول، فيما واحدة من أخواتها منشغلة بالتابلايت وأخرى تراقب الحديث “الآن نرى القليل جدا من المهاجرين، واحدا أو اثنين في اليوم، نخاف أن يهاجمونا أو يسرقوا الدجاج وأغراضنا”، وتضيف “أعرفهم من لون بشرتهم وهم يتحدثون بلغة لا أعرفها”. الأطفال لم يعيشوا تلك الفترة لكنهم سمعوا أهلهم كيف تحدثوا عنها ورددوا بعضا مما قالوه لهم حول مخاوفهم.
يأخذ صاحب المطعم ماغليس استراحة قصيرة بعد فترة الغداء، يقول “أنا من القرية، كبرت فيها لكن في فترة شبابي ذهبت إلى مدينة تيسالونيك وفتحت فيها مطعما وكنت أعزف البزق، لكن بعد ذلك عدت إلى القرية قبل 15 عاما وفتحت المطعم هنا“.
يعود في الذاكرة ولا يخفي جنيه الأرباح من تواجد المهاجرين، ويقول “في فترة الضغط تلك، اضطررت إلى توظيف ثمان نساء لمساعدتي في الطبخ مدة أربعة أشهر إضافة إلى مساعدة ابني الشابين. كنا نعمل من الثامنة صباحا وحتى الثامنة مساء. أعددنا سندويشات الدجاج بسعر ثلاثة يوروهات ونصف للسندويشة الواحدة. كنا نعد فقط الدجاج والبطاطا المقلية. كثيرون لم يملكوا المال لدفع ثمن طعامهم لكن مع ذلك كنا نعطيهم إياه مجانا. كنا نبيع أكثر من ألف وجبة في اليوم الواحد، كانت فترة ربحت فيها وحسنت حياتي بشكل كبير. هؤلاء النسوة ربحن في تلك الفترة أربعة أضعاف الراتب العادي، كن سعيدات بالعمل، يوميتهن أصبحت 100 يورو بدل 30 في اليوم العادي. وأنا كنت سعيدا وساعدت الكثيرين. ساعدت عائلة سورية وكانوا قد أحبونني كثيرا وأروني صورهم وصور العائلة، وهم أنفسهم حموني في بعض المواقف“.
يضيف مفتخرا “أشعر بالرضا عن تلك المرحلة رغم بعض الحوادث”، ويروي تعرض المطعم ذات يوم لكسر النافذة والباب بغية سرقة الطعام، ويكمل “رغم ذلك بقيت أساعدهم لأنني أتفهم حاجتهم”. يقول أيضا “لم أواجه أي مشاكل مع الشرطة بل على العكس كانت إلى جانبي، غير أنه في تلك الفترة منع بيع الكحول في المطعم لأن بعض المهاجرين كانوا يشربونه وتسبب ذلك بمشاكل”. وبقليل من الأسف يقول إن “بعض سكان القرية، ومن بينهم أقرباء لي، امتنعوا عن القدوم إلى مطعمي ومن ثم قطعت علاقتي معهم حتى بعد أن قل تواجد المهاجرين في 2017″، وعزا هذا إلى غيرة البعض من نجاحه.
ولم يلمح من يجلس على شرفة المطعم تواجد شابين أفغانيين مرا على الباب الخلفي للمطعم واشتريا مسرعين شراب الريدبول وقطع الكيك أو الحلوى والمياه ليعودا إلى “الغابة”، أملا في العبور نحو صربيا متحاشين الحديث مع أهل القرية. وبدا مرورهما وكأنه جزء بديهي من المكان. وما يدعى “الغابة” هي منطقة ممتدة عند الحدود تبعد مسافة مشي لعشر دقائق أو ربع ساعة فقط، يمضي فيها مهاجرون نهارهم ويحاولون ليلا العبور نحو مقدونيا الشمالية.
و”لا يزال مهاجرون يحاولون العبور بشكل يومي لكن بأعداد قليلة جدا بالمقارنة مع تلك السنوات، وتتم إعادتهم. حيث لا يزال هنا نحو أربعة إلى خمسة مهربين بالغابة، لكن عمليات عبور المهاجرين تضاءلت جدا” حسبما ذكر بابلو.
وعند نقطة الحدود بين القرية ومقدونيا الشمالية، تواجد ثلاثة شبان، أحدهما قاصر فلسطيني عمره 17 عاما، وشابان آخران مصري وفلسطيني، بدا على وجوههم التعب والإرهاق والغضب وخصوصا الرعب من أن يتم اكتشافهم. يقول القاصر الفلسطيني “لا حرية هنا”، “لا لجوء ولا أي شيء آخر”، يسأل بغضب “يريدون إعادتنا؟ إلى أين؟ إلى مصر؟ ويتوجب عليّ العودة إلى غزة؟ كيف أعود إلى غزة؟“.
يقول الشبان إنهم وصلوا قبل فترة وجيزة إلى جزيرة كريت الجنوبية، وإن هذه المرة الأولى التي يأتون فيها إلى المنطقة، وكان هذا يومهم الأول في هذه النقطة الحدودية حيث جلسوا تحت شجرة يحتمون بظلها من الشمس الحارقة، فيما خلع أحدهم سترته من شدة الحر. وتجنبوا الحديث أكثر خصوصا وأنهم ينوون في الليلة نفسها العبور.
تقول أغابي شوزوراكي، محامية في مجلس اللاجئين اليوناني المنظمة غير الحكومية المعنية بمساعدة المهاجرين، إن من وصلوا إلى اليونان عن طريق جزيرتي كريت وغافدوس في الجنوب بعد قرار تعليق اللجوء في تموز/يوليو، تم احتجازهم لثلاثة أشهر، أي حتى شهر تشرين الأول/أكتوبر لمن وصلوا في شهر صدور القرار، وأن بإمكانهم تقديم طلب اعتراض بعد انتهاء مدة الاحتجاز هذه، لكن عليهم إيجاد محامين لفعل هذا، وبعد ذلك بإمكانهم طلب اللجوء، خصوصا لمن أتوا من بلدان فيها الحروب مثل السودان.
إن عدد طالبي اللجوء للعام الحالي في مجمل اليونان وصل إلى 32.785. كما تغيرت هذا العام الجنسيات الأكثر تواجدا على هذا الطريق فأصبح الأفغان هم في المقام الأول من الوافدين، ثم المصريين والسودانيين والسوريين. في حين شهد العام الماضي تسجيل أكبر عدد من طلبات اللجوء على الإطلاق منذ عام 2013، حيث بلغ في 2024، 73.684. وقد وصل العدد الإجمالي لطالبي اللجوء في اليونان منذ 2013 وحتى نهاية تموز/يوليو هذا العام أكثر من نصف مليون شخص.
من 40 متطوعا قبل 10 سنوات إلى واحد اليوم.. والنساء والأطفال عشن الوضع الأصعب
“جيفغيليا” المدينة المقابلة لإيدومني على الحدود، في مقدونيا الشمالية، عرفت أيضا تدفقا ممن استطاعوا العبور من اليونان. يقول جاسمن ريدجيبي، مسؤول المهمات في منظمة “ليجيس” غير الحكومية “كانت تحدث عمليات صد للمهاجرين إلى اليونان فيعودون إلى المهربين أنفسهم ليمرروهم مجددا.
عملنا في العاصمة لكننا كنا نذهب إلى الحدود كل يوم في تلك الفترة خصوصا بين آب/أغسطس 2015 وآذار/مارس 2016. كان فريقنا مكونا من 40 شخصا في تلك الفترة، أما الآن من يذهب بمهمات إلى الحدود هو شخص واحد. وكان هناك مخيم من جهة الحدود المقدونية الشمالية يدعى فينويوغ، كانت العائلات والنساء والأطفال يبقين فيه فترة أطول حيث الرجال والشباب كانوا يحاولون بسرعة أكثر أخذ القطار. وكان بإمكان المهاجرين أخذ القطار، كانوا يأخذون ورقة تسمح لهم بحجزه لكن مُنع ذلك لاحقا“.
وحتى عندما أغلقت الحدود تماما ذلك العام، أصر المهاجرون على البقاء عند الحدود، حسبما قال محمد المترجم في المجلس الاستشاري اليوناني لشؤون اللاجئين، والذي عزا ذلك إلى أنهم “لم يرضوا العودة حيث لم يكن هناك برامج دعم تمكنهم من البقاء في مكان محمي، صحيح أنه كان هناك مخيمات مفتوحة لكن كانت بحالة مزرية والحمامات والمياه متسخة“.
وتحدث محمد عن أن الوضع الأصعب كان “بالنسبة للنساء اللاتي كن وحيدات مع أطفالهن أو النساء الوحيدات، كن دون ماء ودون حليب خصوصا في فترة الشتاء، حيث كانت الأوضاع مزرية. هناك نساء عايناهن ممن تعرضن للاغتصاب وممن كن عرضة للاغتصاب أيضا“. وكانت المساعدة الأكبر التي قدمتها المنظمة غير الحكومية هي في قضايا تتعلق بلم الشمل العائلي ضمن برامج إعادة التوطين عبر المنظمة الدولية للهجرة.
يروي محمد قصة يعتبرها “أكبر واجب في حياته” ويقول “كنا تعرفنا على أطفال أتوا مع أعمامهم، وأعمامهم كان عندهم عائلاتهم زوجاتهم وأولادهم، وهؤلاء الأولاد كانوا يُسجلون ضمن برنامج إعادة التوطين في لم الشمل العائلي إذا كان أحد الوالدين متواجدا في الاتحاد الأوروبي. ولم يكن هناك أي جهة تسهل هذه الأمور، فحظيت بلحظة لن أنساها في حياتي وهي أنني رافقت طفلين شقيقين سوريين، صبي وبنت أعمارهما خمس وثلاث سنوات، إلى ألمانيا وسلمتهم إلى والدهم بعد أمر من المدعي العام في اليونان. كان العم قد تم اختيار بلد له ضمن برنامج إعادة التوطين لكن في الوقت نفسه كان علينا نقل الأطفال إلى ألمانيا، فكيف كانت ستكون حالهم لو بقوا هنا؟ كانت البهجة والسرور لا توصف، لحظة سعادة مطلقة وعناق مع الأطفال“.
هذه واحدة من قصص تلك الفترة الكثيفة بالنسبة للجميع، السكان والمتطوعون والعاملون الإغاثيون والشرطة. أغلب من مروا في 2015 و2016 عبروا إلى دول أخرى في السنوات اللاحقة. يقول صاحب مطعم عراقي، يعيش في مدينة تيسالونيكي القريبة من القرية الحدودية، إن أغلب من أتوا في تلك المرحلة أكملوا رحلاتهم إلى ألمانيا وهولندا ودول أخرى في أوروبا الغربية وإنه لا يعرف سوى عائلتين بقوا في المدينة. ومن بين مجموعة من المهاجرين التقينا فيهم عند المطعم كان أقدهم قد أتى عام 2019 وحاول الذهاب إلى ألمانيا لكن تمت إعادته بموجب اتفاقية دبلن التي تقضي بإعادة مهاجرين إلى أول بلد سُجل دخولهم إليه.
ليس المكان وحده هو الذي سجل خطواتهم وأثرهم، وإنما من عبروا أيضا اختزنوا بأنفسهم ما عاشوه في ذاكرتهم وأيضا في وسائل التواصل الاجتماعي العديدة. سوريون كثر، وهم الجنسية الأولى التي تدفق أصحابها في تلك المرحلة، عبّروا عن غضبهم، سخريتهم، وأحيانا آمالهم واختلاقهم للحظات مرح رغم كل المعاناة على الطريق.
وأنشأ سوريون تواجدوا في إيدومني عام 2016 صفحة على فيسبوك سموها “ريفوجيز تي في”، ونشروا فيها رسوم الأطفال والمعاناة أثناء الصد من الحدود بإطلاق الغاز المسيل للدموع وتفكيك خيامهم، والظروف القاسية في برد الشتاء، والاعتصامات والمطالب المختلفة بفتح الحدود وتأمين أدنى سبل العيش. ونقلوا خصوصا حاجتهم إلى مكان آمن بدون مخاطر تهدد وجودهم.
وفي هذه القرية الصغيرة أيضا، ومن وسط مخيم أيدومني، كانت عبارة لطفل سوري قد انتشرت بشكل كبير على وسائل التواصل، وهو الذي قال “وقفولنا هالحرب وهالطيران، ولتشوفونا كلنا رجعنا من أوروبا“.
