منذ منتصف الصيف، تجتاح العراق موجة من العنف، نشأت عن مواجهة بين الأحزاب الشيعية المتنافسة في مقر البرلمان في بغداد. ولا تزال هذه الأزمة مستمرة، بين مقتدى الصدر وخصومه في الإطار التنسيقي المدعوم من إيران. وفي حين يُقال إنه صراع حول من يمكنه تسمية رئيس الوزراء المقبل للدولة، فإنه في الواقع أعمق بكثير من ذلك، ويدور حول من يكون له القول الفصل في السياسة الشيعية.
ولا يزال الوضع متقلّبًا في بغداد، حيث تنتشر اضطرابات أخرى في بقية أنحاء العراق. وقد قوبل العديد من المظاهرات بالقوة، وألقي باللوم على تنظيم داعش. وكان رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي قد أعلن انتصاره على التنظيم الإرهابي في ديسمبر 2017، ولكن يبدو أنه يعود ببطء وثبات -أيديولوجيًا على الأقل- من خلال مئات العائلات التابعة لداعش العائدة إلى ديارها، بعد سنوات من الاحتجاز في مخيّم الهول المُترب في شمال سوريا.
منذ ثلاث سنوات وحتى الآن، يضم مخيم الهول أكبر عدد لأعضاء داعش المحتجزين. الجدير بالذكر أنه استقبل الآلاف منهم بعد انهيار آخر جيب للتنظيم في بلدة الباغوز السورية في مارس 2019. ومنذ ذلك الحين، تقوم قوات سوريا الديمقراطية على إدارة المخيّم، وهي جماعة كردية مدعومة من الولايات المتحدة تجد نفسها اليوم غير قادرة على نحوٍ متزايد على حفظ الأمن وإدارة المخيّم.
إن إدارة المخيّم تكلِّف الكثير بالنسبة للأكراد، الذين يفضلون إنفاق أموالهم النفطية على شراء الأسلحة وتدريب جنودهم، قبل أي مواجهة مستقبلية محتملة مع تركيا. وبالنسبة لهم، الوضع الآن أكثر إثارة للقلق في ضوء التقارب المستمر بين دمشق وأنقرة، تقارب من الواضح أنه سيكون على حسابهم. وبالتالي، فليس لديهم الوقت أو المال أو القوى العاملة لإدارة الهول. ونتيجة لذلك، دأبوا على خفض مستوى الأمن في المخيّم على مدى العام ونصف العام الماضيين.ووفقًا لقوات سوريا الديمقراطية، 93% من سكان الهول البالغ عددهم 55,0-57,000 نسمة هم من النساء والأطفال الذين ينتمون إلى ما بات يُشار إليه الآن باسم “عائلات داعش”. ويضم المخيم زهاء 47,000 سوري وعراقي، مع ملحق لعدد 8,000 زوجة وطفل لمقاتلي داعش. وتقدِّر منظمة “هيومن رايتس ووتش” العدد بقرابة 43,000 شخص.
وفي منتصف عام 2022، قالت قوات سوريا الديمقراطية إنها اكتشفت أسلحة وذخائر في الهول، بينما تدّعي وزارة الخزانة الأمريكية أن المخيّم أصبح نقطة جذب لتمويل داعش. يستخدم أعضاء داعش نظامًا خاصًا لتحويل الأموال لنقل ما يقدَّر بنحو 100 مليون دولار من الاحتياطيات النقدية. بالإضافة إلى ذلك، وقع ما لا يقل عن 42 عملية إعدام على غرار داعش في الهول منذ بداية هذا العام. وفي وقتٍ سابق من مارس 2021، قالت قوات سوريا الديمقراطية إنها اعتقلت خمسة من قادة الخلايا في الهول، إلى جانب 53 مشتبهًا بانتمائهم إلى داعش.
على مدار الشهرين الماضيين، تبنّت قوات سوريا الديمقراطية استراتيجية ذات شقين في الهول. الأول عملية عسكرية كاسحة، تعطي ضوءًا أخضر لأولئك الذين لا ينتمون إلى الإرهاب لمغادرة المخيم، خطوة اتخذت على ما يبدو بناءً على تشجيع من إدارة بايدن. واكتشفت أكثر من 260 خلية نائمة داخل المخيّم منذ منتصف سبتمبر. وقبض على بعضهم وهم يرفعون أعلام داعش على شرفاتهم، واكتشفت مواد دعائية لداعش في أماكن معيشتهم. وتقول قوات سوريا الديمقراطية إنها اكتشفت أيضًا 25 نفقًا يحفرها بعض سكان الهول، ومخزون من الأسلحة (بنادق هجومية، وقذائف صاروخية، و25 قنبلة يدوية). ووصف بأنه أكبر مخبأ للأسلحة منذ تحرير الباغوز عام 2019.
أما بالنسبة لأولئك الذين سُمح لهم بالمغادرة، فإن معظمهم يجدون أنفسهم غير مرغوب فيهم في بلدانهم الأصلية، باستثناء النمسا، التي أعلنت مؤخرًا أنها ستعيد نساء وأطفال عائلات داعش القادمين من الهول. واتخذ العراق أيضًا خطواتٍ مماثلة، حيث وافق على عودة عدد 150 أسرة إلى ديارها، وكلها من سكان الهول السابقين. ومن المتوقع عودة 350 أسرة أخرى بحلول شهر ديسمبر.
في الوقت الحالي، يتم إيواء تلك الأسر في مخيّم جدة في محافظة نينوى لمدة ستة أشهر تنتهي في فبراير 2023. التدابير الأمنية في مخيّم جدة ليست قوية. ويمكن للعديد من العائدين، وهذا ما بدأ يحدث بالفعل، شق طريقهم من خلال رشوة الأمن العراقي، ثم دخول البلدات والمدن العراقية المجاورة.في هذا الصدد، كشف تقرير حديث أن عدد مقاتلي داعش في كل من سوريا والعراق يبلغ 10,000 شخص. ومع ذلك، فإن عدد الشباب الذين يمكن لهؤلاء المقاتلين تجنيدهم وتلقينهم التعاليم غير محدود نظريًا. ولا يزال التنظيم نشطًا في المنتديات الجهادية عبر الإنترنت، ويستخدم تطبيقات الدردشة المشفّرة لتجاوز الحظر الذي يفرضه تويتر وفيسبوك. مكانهم الرئيس هو شبكة التواصل الاجتماعي الروسية، تسمى “تام تام”، حيث نشروا دليلًا توضيحيًا يتكون من 216 صفحة أطلقوا عليه اسم “المقاتل الجهادي المبتدئ”، إلى جانب فيديو تعليمي قابل للتنزيل حول كيفية صُنع بندقية ذات طلقة واحدة لتنفيذ اغتيالات من مسافة قريبة.
على مدى الأشهر العشرة الماضية، نفّذت خلايا داعش سلسلة من الهجمات الفتاكة في سوريا والعراق، كان أضخمها في سوق مزدحم في بغداد في يناير 2021. يمكن عزو الهجمات العراقية إلى جماعة داعش الأصلية التي أسسها أبو بكر البغدادي، وانبثقت من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق المرتبط بتنظيم القاعدة.
كانت الهجمات السورية محلية ومن دون سابق تخطيط كبير، وتبنتها جماعات قد تكون مرتبطة أيديولوجيًا بداعش، لكنها لم تتلق أيًا من أسلحة داعش أو تدريباته. بعد هزيمتهم الكبرى الأخيرة في سوريا في عام 2019، حلق مقاتلو داعش ببساطة لحاهم، وخلعوا زيهم العسكري، واندمجوا في المجتمع القبلي السوري والعراقي. ووجد العديد منهم ملاذًا آمنًا داخل مجتمعاتهم المحلية، في حين نفى آخرون أنهم عملوا في أي وقت مضى مع التنظيم، وذلك بفضل الأسماء المستعارة التي استخدموها. ومع ذلك، بين الحين والآخر، نسمع تصريحات من مسؤولين عراقيين، حول خلايا داعش النائمة، خاصة الآن مع عودة الناس من مخيّم الهول.
هل التهديد حقيقي؟ أم أن القادة العراقيين كانوا يبالغون في ذلك لأغراضٍ سياسية، سواء قبل الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021 أو بعدها؟
في الواقع، من السهل دائمًا إلقاء اللوم في أي شيء على داعش، فذلك سهلٌ ومفيدٌ في آنٍ. ذلك أن تهديد داعش يخيف جميع الأقليات، ويضطرها للخضوع ويصب في مصلحة الأحزاب الشيعية التي تكافح من أجل توحيد صفوفها في ضوء طموحات مقتدى الصدر الأخيرة.وفي الشهر الماضي، استهدف هجوم مركزًا للشرطة يقع بالقرب من حي المعتصم، جنوب شرق مدينة تكريت مسقط رأس صدام حسين. وعلى الرغم من عدم رفع أعلام داعش، وعدم العثور على أي انتماء لداعش، ألقت السلطات العراقية باللوم على الفور في الهجوم على التنظيم الإرهابي. لكن تنظيم داعش لم يعلن مسؤوليته عن الهجوم.
كما ألقت باللوم على التنظيم في إطلاق نار آخر في مدينة سامراء المقدسة، وفعلت الأمر ذاته مع رجلٍ ألقي القبض عليه في ديالى مسلحًا بحزامٍ ناسف، قيل إنه كان من المقرر استخدامه ضد الحجاج الشيعة. وفي 19 سبتمبر، قالت وحدات الحشد الشعبي إنها اشتبكت مع ميليشيات داعش جنوب الموصل، مدّعية أنها قتلت العديد منهم، ولم تحدد أسماءهم.
كبش فداء داعش مناسب أيضًا لحكومة إقليم كردستان، التي تواجه عددًا من المشكلات. ففي الشهر الماضي، اندلعت مظاهرات في أربيل والسليمانية، أدّت إلى اعتقال 600 شخص، من بينهم 11 صحفيًا. وردت السلطات الكردية بمداهمة مكاتب المتظاهرين، ومصادرة أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. الجدير بالذكر أن المتظاهرين يطالبون بتحسين الأجور وتوفير المزيد من الوظائف الحكومية، مظلمتان لا تقتصران على كردستان العراق، وتنتشران على نطاقٍ واسع في الأراضي الخاضعة لسيطرة حكومة مصطفى الكاظمي. وإذا تكررت هذه المظاهرات في الأسابيع المقبلة، فلن تُعقد انتخابات برلمانية في كردستان العراق هذا العام، التي كان من المقرر إجراؤها في الأصل هذا الشهر.
في الشهر الماضي، استهدف مركز شرطة في غرب كركوك بعبوة ناسفة، بينما انفجرت قنبلة محلية الصنع أمام مركز تجاري في حي زيونة في بغداد. تسبب الهجومان في أضرار جانبية، دون وقوع خسائر في الأرواح، وفي الحالتين ألقت السلطات باللوم على داعش.
وفي كركوك أيضًا، حدث إطلاق نار من سيارة على أفراد الشرطة، ما أسفر عن مقتل رجل. وانفجرت سيارة مفخخة أخرى في ديالى، ما تسبب في مقتل شرطي، وألقي باللوم على داعش في كمين ضد القوات الكردية بالقرب من وادي الشاي.
اتهام داعش وإلقاء اللوم عليه في أي هجوم اتهامٌ جاهزٌ لدى كل من الحكومة المركزية في بغداد، وحكومة إقليم كردستان. فهو يوحِّد العراقيين، سواء كانوا أكرادًا أو عربًا شيعة، ويساعدهم على تجاوز خلافاتهم السياسية، حتى لو كانت مؤقتة فقط. إنهم يطلقون تهمة الانتماء إلى داعش على أي شخص يحمل السلاح أو عمل سابقًا مع أي من الميليشيات المسلحة. وسواء كان هذا التصنيف حقيقيًا أم لا، فإنه يتطلب الكثير من التحقيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية، إلى جانب مشاركة المعلومات مع وسائل الإعلام والجمهور الأوسع. غير أن أيًا من ذلك لم يحدث حتى الآن.
المصدر: عين أوروبية على التطرف