البحث عن جذور الإسلام: أوريجانوس الأب الروحي (1-10)

الحلقة الاولى: وجيه فلبرماير

يحكي الاصحاح الثامن من انجيل متى عن ان السيد المسيح أتى عن طريق قرية اسمها الجرجسيين فرأى مجنونان هائجان في منتهى العنف حتى ان اي انسان كان من الصعب أن يمر من هذا الطريق فكان هذا المجنونان ملبوسان بالشياطين ولما رأوا المسيح نطقوا على لسانهم ” ما لنا ولك يا يسوع ابن الرب ،أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟”

عندما جاء المسيح ليصنع الخلاص علم الشيطان ان حسابه الاخير قد اقترب واصابه الرعب والهلع، ولانه محارب للرب سيده وعدو الانسان ومهلك الارواح قرر ان يشتد في حربه ولعله ظن انه بكبرياءه يستطيع ان يكون هو نفسه الرب فكانت تتوالي كل محاولاته لافساد عمل الخلاص الذي جاء من اجله السيد المسيح.

بعد ان صلب السيد المسيح وقبر وقام من الاموات وصنع الخلاص للبشرية وصعد عن يمين ابيه بدأت مملكة رئيس الشياطين لوسفير الحرب ضد المسيحية التى بدأت تنتشر وتعرض المسيحيون الاوائل الى ابشع انواع التعذيب والقتل لمدة ثلاثة قرون على ايدي القياصرة الرومان اسياد العالم وكان من اشهر انواع العذاب هو القاء المسيحيون احياء للوحوش الضارية والاسود الجائعة في المسارح والملاعب ويدخل المتفرجون ليتمتعون بنهشهم احياء وكان من اشهرهذه المسارح ساحة “الكولوسيوم” في روما وهي تلك الموجودة حتى اليوم وتعتبر مزاراً للسياح

وهكذا كانت الحرب الاولى للشيطان ضد المسيحية هي تهييج الوثنيين ضدهم وتأليب القيصر ضدهم لانهم ينكرون انه هو الملك والرب واستخدام العنف والدم في قمعهم وقتلهم ولكن ثبت المسيحيون على ايمانهم وقدموا انفسهم للشهادة ثمناً لايمانهم وانتشرت المسيحية في المملكة الرومانية حتى اعتنق الامبراطور الروماني نفسه المسيحية.

نتحدث هنا عن الملكة العظيمة هيلانة التى أمنت بالمسيح وكانت هذه خطة الرب لكي يلتقط المسيحيون انفاسهم بعد ثلاثة قرون من العذاب والاختفاء تحت الارض وهذه الام القديسة هي التى ربت ابنها ليقبل الايمان بالسيد المسيح وهو قسطنطين العظيم او الاول او كما يقول اقباط مصر “القديس قسطنطين” وذلك مع بداية القرن الرابع الميلادي

وبعد ان اصبح سيد العالم القيصر الروماني نفسه مسيحياً تقياً توقفت الاضطهادات الرومانية وبدأت المسيحية تظهر على وجه الأرض وتخرج من الانفاق المظلمة لتنتشر وسط الشعوب ويحل النور للجميع، وجاء النور الى العالم ولكن الشيطان والاشرار احبوا الظلمة اكثر من النور لأن اعمالهم شريرة فكانت الخطة الثانية للشيطان بعد ان فشل الاضطهاد الروماني ضد المسيحيين الاوائل وهي خطة تقسيم الكنيسة نفسها ونشر الهرطقات الوثنية داخل الكنيسة.

ماهي الفكرة الشريرة التى صنعها الشيطان لكي يفتت المسيحيين انفسهم من داخلهم؟ انها فكرة التشكيك في ألوهية السيد المسيح واعتباره بمثابة انسان او إله مخلوق او إله صغير له بداية، وللشيطان طريقه واتباعه للتشكيك في المسيح بدأت مع ظهور السيد المسيح نفسه على الارض في مقاومة شرسة من قبل الكتبة والفريسيين اليهود حتى انهم ظنوا انهم قضوا علي المسيح ولكن هم بذلك مهدوا الطريق للخلاص الذي صنعه حسب مشيئة الرب.

نتحدث عن فكرة انكار لاهوت المسيح والوهيته وتحطيم فكرة الاقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس وهي فكرة لوسيفر رئيس مملكة الشيطان والتى استخدم فيها بادئ الامر اليهود انفسهم ثم الامم والشيطان يعلم جيدا من اين يدخل الى اتباعه عن طريق العهد بطرق مختلفة منها الفلسفات الوثنية واعمال السحر الاسود ثم يسود على النفس البشرية لتصبح عجينة في يده يحركها كما يشاء لتسرب لنا هذه الفكرة الاجرامية بنعومة داخل الكنيسة ووسط المؤمنين.

لابد ان نعرف ان اليهود اثناء سقوطهم في السبي البابلي قبل ظهور المسيح بستة قرون على يد ملك بابل “نبوخذ نصر” تأثر بعض منهم بالديانات الوثنية وبعض الاسرار الشيطانية فيما يتعلق بالسحر الاسود ونشأ منهم طائفة تتناقل اصول السحر الاسود شفويا من جيل الى جيل وهي طائفة الكابالا او يقال احيانا القابالا، وافراد هذه الطائفة يعرفون جيدا اصول الدخول في عهد دموي مع الشيطان ولهم اتصال مباشر به فيمدهم بحكمته وافكاره وسلطته وقوته ليتسلطوا بها على العالم.

وبعد ظهور السيد المسيح وقيامته ظهرت ايضا طائفة اسمها “الأبيونية” وهي معناها الفقراء او المساكين من اليهود وكانت تنتشر في العصور المسيحيية الاولى وهي طائفة تعترف بالمسيح ولكن تنكر ألوهيته فتعتبره مصلح او ثوري او رجل صالح ويمكن القول ان الابيونيين هم هراطقة متهودين وهم ايضا يقال عنهم الناصريين ثم تحول اسمهم الى الابيونيين ومن هنا جاء مصطلح النصاري في القرآن والمعنى بهم ليس المسيحيون ولكن الهراطقة المتهودين الذين يطلق عليهم الابيونيين.

ومن الكابالا والابيونية في الشام والجزيرة العربية بدأت تنتشر فكرة وحدانية الله وانكار الوهية المسيح واعتباره رسول او نبي او رجل صالح وتجريد السيد المسيح من جوهره وانتشرت هذه التعاليم بشكل كبير حتى وصلت الى اقصى حد لها على يد بطريرك القسطنطية نفسه نسطورس.

تتلخص هرطقة نسطورس في انه يرى ان السيدة العذراء ولدت انسان وبعد ذلك حل فيه اللاهوت وقال ان العذراء لايمكن ان تلد إله فالمخلوق لايلد الخالق وما يولد من الجسد ليس سوى جسد، ورأي ان علاقة طبيعة المسيح البشرية بطبيعته الالهية او اللاهوتية بدأت بعد ولادته ولم تكن اتحاداً بل كانت طبيعتين منفصلتين.

وقد شكل فكر نسطورس الفلسفي مذهب الارسطوطالية الاكثر واقعية وحرفية في فهم الكتاب المقدس ويتصادف ان تتقابل هنا المدرسة الارسطوطالية في الشام مع المدرسة الافلاطونية الحديثة التى سبقته في الاسكندرية والتى تعتمد المنهج التأويلي الرمزي للحقائق لتقر بانسانية المسيح وانكار لاهوته الالهي الآزلي.

وهنا يجب الكلام عن شخص سبق نسطورس بقرون ظهر في الاسكندرية اسمه اوريجانوس او كما يقال عنه العلامة اوريجانوس وهي شخصية كثر الكلام عنها حتى اليوم، وابيه هو احد شهداء المسيحية العظماء وكان اوريجانوس منذ صغره شخصية مميزة جدا وعقله عامر بالعلم والثقافة واللغات ولكن يبدو انه رغم ايمانه القوى وعلمه الغزير انهزم امام الشيطان واستطاع ان ينحرف به الى افكار مميتة وكان منها انه قام بخصي نفسه حرفياً حتى لاينحرف جنسيا وهو معلم للرجال والنساء وقد تدفعه الشهوة الى علاقات جنسية وانحرافات اخلاقية.

وهنا نرى مدي وحشية الشيطان عندما ينحرف بفكر الانسان فلايمكن ان نتصور قيام اوريجانوس بخصي نفسه بنفسه في عز شبابه سوى بانها فكرة شيطانية خبيثة وشريرة ، واحتار البعض في تفسير هذا السلوك رغم انه عكس طريقة تفكيره فهو استاذ تفسير الكتاب المقدس بفلسفة الرمز والتلميحات واذا به في لحظة عندما سيطر عليه ابليس ينفذ احد نصوص الكتاب المقدس بشكل حرفي دموي.

شطحات وهرطقات اوريجانوس كثيرة ونابعة من تمسكه بالفلسفة الافلاطونية الحديثة ولكن اهم هذه الهرطقات هو انه اكد ان المسيح الابن غير مساوي للاقنوم الآب بل اقل منه وان الثالوث غير متساو في المجد والكرامة وله افكار كثيرة تؤكد ان الشيطان يمكنه التوبة وان البشر كانوا مخلوقات غير مادية اي مخلوقات روحانية مثل الملائكة وعاقبها الرب بالحبس في الجسد وافكار اخرى تتبنى فكرة تناسخ الارواح في العبادات الوثنية. وبذلك اصبح اوريجانوس هو الآب الروحي الحقيقي لمعظم الهرطقات السكندرية وعلى رأسها انكار لاهوت المسيح الحقيقي.

كل الافكار السابقة التى ظهرت في كل من الشام وانطاكية والاسكندرية خلقت اجيال من الكهنة والاكليروس انحرفت تماماً عن الفكر اللاهوتي المسيحي الصحيح واصبح هناك ملايين المسيحيين من الرهبان والرعاة والشعب يتبعون فكر الابيونية ونسطور والعلامة اوريجانوس وينكرون لاهوت المسيح ويجعلونه غير مساوي للآب ويهدمون بذلك العمود الاساسي الذي تقوم عليه المسيحية بالكامل وهو الثالوث او الاقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس. وهناك المئات من الاسماء للاساقفة والكهنة الذين تبعوا هذا التعليم الهرطقي ولكن لم يحققوا تلك الشهرة والانتشار التى حققها الشماس آريوس

وفي افريقيا ظهر الشماس المشهور “أمونيوس آريوس” الأمازيغي الذي ولد في ليبيا عام 270  والذي تتلمذ على ايدي اسماء كثيرة من مؤيدي فكرة الابيونيين ونسطور وأوريجانوس التى تجعل الاقنوم الابن غير مساوي للاقنوم الآب وكان يقول انه من المستحيل ان يكون الابن إله كامل وان المسيح معرفته محدودة وان طبيعته قابلة للتغيير وامور اخرى كثيرة في هذا الاتجاه واستطاع آريوس في فترة قصيرة ان ينشر فكره في الكنيسة حتى كادت المسيحية كلها تنهار في العالم ولم ينجو من هرطقته سوى الكرسي السكندري بعد ان وقف ضده القديس اثناسيوس الرسولي.

وهذا هو الجو اللاهوتى الذي ساد الكنيسة المسيحية حتى نهايات السادس الميلادي بعد مائة عام من انقسام الكنيسة الى كنيستين بفشل مجمع خلقيدونيا عام 451 حيث اصبحت هناك الكنائس الارثوذكسية الشرقية ثم الكنائس الكاثوليكية الغربية باستثناء اليونان.

وتبلورت فكرة “بشرية المسيح” او “تشويه لاهوت المسيح” والتى يطلق عليها فكرة “وحدانية الله” من خلال الفكر الابيوني اليهودي والنسطوري والآريوسي وفكر اوريجانوس السكندري واصبح اقوى تمثيل لهذا الفكر موجود في جزيرة العرب حيث هناك انتشرت النصرانية (الابيونية) وكذلك النسطورية والآريوسية واصبحت هي البذرة الاساسية التى نمت وانبتت الاسلام الذي تسلق على المسيحية واليهودية.

الرهبان والكهنة النصاري والكاثوليك في الاديرة الموجودة في جزيرة العرب والشام انتشر بينهم اتباع النصرانية والآريوسية والنسطورية وكان منهم كل من الراهب السرياني بحيرا والكاهن النصراني ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عم خديجة النصرانية زوجة محمد رسول الاسلام. هذا السرياني وذاك النصراني هم من صنعوا فكر التوحيد الاسلامي واسسوا اللبنة الاولى لتلك الفكرة الشيطانية التى غزت كل العالم وهم استوحوا افكارهم مباشرة من الشيطان بعد ان زرعت فيهم من خلال الفكر الابيوني والنسطوري حيث ان ورقة بن نوفل كان معروف بممارسته للسحر والاتصال بالشيطان في كهوف الصحراء وتلقى علمه من اليهود المهرطقين الناصريين والذين يطلق عليهم “الابيونيين” اي  الفقراء والمساكين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *