قصص سوريين فروا من الموت في شمال لبنان

برفقة ثمانية من أطفالها، هربت مايا (38 سنة) من أحداث الساحل السوري. عبرت النهر الكبير الفاصل بين سهل عكار في شمال لبنان والأراضي السورية. تروي السيدة لـ”اندبندنت عربية”، “تركنا منازلنا في بلدة كرتو في محافظة طرطوس، وغادرنا بسبب الخوف من التعرض للقتل والخطف”، وتؤكد “لم نأت إلى هنا رغبة منا، وإنما من أجل البحث عن مكان آمن بعد أن وصلنا إلى أفق مسدود”، ومكررة “لن نعود لسوريا قبل تأمين حماية دولية لنا”، وتلفت “التجأنا في السابق إلى هيئة تحرير الشام بعد حصول مخالفات، وكان جوابهم لسنا نحن، ومع زيادة الخوف، قررنا القدوم إلى لبنان، وعبرنا النهر نحو عكار مشياً على الأقدام”.

 تقيم السيدة مايا مع عشرات في مركز إيواء جهز على عجل في بلدة الريحانية، حيث توزع النازحون على غرف تفتقر إلى الطلاء والمرافق الصحية الكافية، وحصلت كل عائلة على فرش أسفنجية وأغطية.نجول بينهم لنسمع قصصاً متنوعة ومتشابهة في آن واحد، لكل حكايته مع الفرار من سوريا إنما الهدف واحد وهو النجاة، كما يقولون.

تروي النازحة هند القادمة من طرطوس تجربة نزوحها مع أبنائها الخمسة “بعد سقوط النظام، بدأنا نشعر بالخوف بسبب رواج الحديث عن تصفيتنا، ما عدنا نخرج من المنازل إلا لحاجة ضرورية”، مضيفة “التجأنا إلى أهلنا في لبنان درءاً للخطر، بعد أن رأينا الدم والجثث المنتشرة في الشوارع”. كما تتحدث عن “تعرض المنازل للسرقة، وتكرار أحداث إطلاق النار بالهواء لترويع المدنيين”. لا تعلم هند موعد عودتها لمدينتها، فهي تقرن العودة لبلدها بتحقيق الأمان، متحدثة حتى عن “فقدان الخبز بسبب البقاء في المنزل لأيام”، وإغلاقها صالون الحلاقة الذي تمتلكه منذ 10 أيام. تنفي هند حصول اشتباكات في منطقتها، لأنه لا توجد لديهم مجندين ومسلحين في أوساطنا، كما تقول، وتشير إلى تواصل يومي مع من بقي من عائلاتهم في طرطوس، ولكن عدم استقرار شبكة الإنترنت يحول دون متابعة الأخبار هناك.  

تجاوز عدد الواصلين، سوريين ولبنانيين، إلى عكار شمال لبنان في الأيام الماضية 7 آلاف نازح من ضمنهم 40 عائلة لبنانية بحسب مسح أجرته المحافظة، وغادر هؤلاء قرى الساحل السوري نحو الأراضي اللبنانية المقابلة، واستقروا في بلدات نلبيرة وتلحميرة والمسعودية والعبودية والسماقية وحكر ضاهري والعريضة والحيصة وضهر القنبر وتلعباس الشرقي والريحانية وعين الزيت والحوشب والدغلة وبربارة.

وفي لقاء مع رؤساء بلديات سهل عكار، أشار المحافظ عماد لبكي إلى أن “معظم النازحين استضافتهم عائلات لبنانية في منازلها، أو استقروا في الوقت الحالي في قاعات البلدية والجوامع”، داعياً المجتمع الدولي إلى التحرك من أجل تقديم المساعدات، لأن المجتمعات المحلية غير قادرة على تلبية حاجات النازحين الجدد.

تشترك الدولتان بحدود برية تتجاوز 370 كيلومتراً، فيما ترتبط محافظة عكار مع سوريا بثلاثة معابر حدودية نظامية وهي تقع في بلدات العبودية والعريضة والعقيبة، وراهناً لا تزال هذه المعابر مقفلة بسبب أعمال الصيانة بعد استهدافها وتدميرها من سلاح الجو الإسرائيلي ضمن أحداث الحرب الأخيرة. وعلى رغم البدء بتأهيل المباني حصراً، فإن حركة الدخول بين لبنان وسوريا ما زالت معطلة بسبب تدمير الجسور.

وبالتالي لا يدخل الفارون من سوريا إلى لبنان عبر المعابر النظامية، وإنما من خلال طرق غير نظامية في وادي خالد، أو عبر النهر الكبير إلى قرى سهل عكار، وفي هذا السياق يكشف مصدر أمني لـ”اندبندنت عربية” عن أن حركة العبور هذه تتركز من خلال بلدات حدودية محددة، وهي من الجانب اللبناني حكر الضاهري والسماقية والعبودية.

وفي تلك البقعة الحدودية بين البلدين، توجد نحو 20 قرية تنتمي غالبية سكانها للطائفة العلوية، ولذلك أسهم التداخل الجغرافي والاجتماعي في تسهيل عملية العبور باتجاه الأراضي اللبنانية، فيما يتحدث الأهالي عن تسهيل الدخول إلى لبنان “لأسباب إنسانية”.  

من جهته يتطرق الناشط علي صالح عضو لجنة إدارة الكوارث في عكار عن ظروف الإيواء المستجد، موضحاً أن “عكار تستقبل موجة النزوح الثالثة، بعد أن استقبلت آلافاً من السوريين عقب اندلاع الأحداث السورية في 2011، ومن ثم الموجة الثانية مع العدوان الإسرائيلي على لبنان في سبتمبر (أيلول) 2024، وصولاً إلى موجة النزوح الحالية التي مصدرها الساحل السوري، وبعض قرى محافظة حمص الجارة”.

ويضيف “باتت بعض القرى العكارية تحتضن نازحين من مختلف النسيج السوري ومن الفئات كافة”، مشيراً إلى “مأساة تحدث على حافتي النهر الكبير، إذ يدفع بعض الناس ضريبة أحداث غير مسؤولين عنها سابقاً وحالياً، فيما ينتمي الهاربون بغالبيتهم لمجتمع فقير وكادح، يعمل في الزراعة وكان مضطهداً إبان النظام السابق في سوريا، إذ لا يجوز التعرض لطائفة بأكملها بسبب أعمال فئة قليلة أو مجموعة من الشباب”، مشدداً “الموجودين في مراكز الإيواء المستحدثة هم من الأطفال والنساء، لا نأوي أي أحد عليه شبهات أو مرتكب”.

يتطرق صالح إلى أماكن توزيع النازحين بين مبنى البلدية وبعض الشقق التي قدمها أبناء القرية كخدمة إنسانية، فيما قامت هيئة إدارة الكوارث بالتنسيق مع محافظة عكار والمجلس الإسلامي العلوي، وقيام الصليب الأحمر بتقديم الفرش والبطانيات، متمنياً توسيع دائرة المساعدات لتشمل وبعض الخدمات الطبية وتأمين وجبات طعام وإفطار يومية لقرابة 7 آلاف نازح غادروا منازلهم بسبب الخوف وانتشار الفقر والجوع المزمن وفقدان الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء منذ سنوات. يأسف صالح بأن “موارد أهالي عكار محدودة، وغالبيتهم من صغار الكسبة، ولا يمكن تقديم المساعدات فوق طاقتهم”، متمنياً “عودة النازحين لديارهم والازدهار لسوريا”. 

استقبل أهالي سهل عكار النازحين في بيوتهم، ويتحدث الناشط نصر مالك عن “استقبال القرى لعائلات هاربة، غالبيتهم النساء والأطفال، والرجال كبار السن”، منوهاً بـ”الحملات العفوية”، التي قام بها أهالي القرى لتقديم الطعام والملابس لمساعدة القادمين من سوريا. ويشدد على بلوغ القدرة الاستيعابية القصوى، قائلاً “في بلدة الريحانية التي تبعد 20 كيلومتراً عن الحدود هناك 300 نازح والأعداد قابلة للازدياد، لأن بعضاً منهم يتواصل مع أهلهم في الداخل السوري وتحديداً من سكان حمص ودريكيش، وبعض القرى القريبة من الحدود في أرزونة والمشرفة والحسنة التي يمكن الخروج منها سيراً على الأقدام، ومن شأن إبلاغهم أنهم باتوا في مأمن من الحرب حثهم على القدوم إلى سهل عكار”.

يوضح مالك أن “الأعمال الإغاثية الأهلية وصلت إلى ذروتها، وهي بحاجة إلى تدخل مؤسسات حكومية ودولية مانحة. لأن الأهالي لم يعد بإمكانهم تقديم مزيد بعد افتتاحهم لدور البلدية، والمزارات الدينية كمزار الشيخ أحمد قرفاص، ومزار يوسف الرداد”، وقد تتحول لاحقاً المدارس إلى مراكز إيواء في حال وجود قرار رسمي. كما “استقبل الأهالي النازحين في بيوتهم، ولكنهم عاجزون عن تأمين الخدمات الصحية والطبية ذات النفقات المالية المرتفعة” بحسب نصر مالك، متطرقاً إلى بعض الحالات الصحية المستعصية، إذ يعاني بعض الأطفال التلاسيميا، وإحدى النساء تحتاج إلى غسيل الكلى، وهو من الأمور غير المتيسرة على الأهالي في المجتمعات المستضيفة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *