
تشهد العواصم الأوروبية حالة من القلق المُتزايد إزاء مستقبل أمن القارة، في ظل تصاعد احتمالات تقليص الدور العسكري الأمريكي. ويأتي ذلك بعد تصريحات وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث، الذي أكد أن الحضور العسكري الأمريكي في أوروبا ليس “أبديًّا” وذلك في تصريحات له بقمة ميونخ الأمنية، وهو ما اعتبره مسؤولون أوروبيون تحذيرًا صريحًا بضرورة الاستعداد لمرحلة جديدة من الاعتماد الذاتي على القدرات الدفاعية الأوروبية.
هذا التحول في السياسة الأمريكية ليس مفاجئا، إذ لطالما انتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حلفاءه في الناتو؛ لكنه يُعد أول زعيم أمريكي يدفع أوروبا للتفكير بجدية فيما ستفعله إذا قررت واشنطن سحب مظلتها الدفاعية.
وتثير هذه الاحتمالات قلقًا خاصًا لدى دول الجناح الشرقي للناتو، التي تخشى أن يستغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أي انسحاب أمريكي لترسيخ نفوذه في المنطقة، وفق تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، منشور في 19 فبراير 2025. وفي هذا السياق، تتصدر مسألة زيادة الإنفاق الدفاعي أجندة القادة الأوروبيين، إلى جانب البحث عن سبل لتعزيز الدفاعات الجوية، وتطوير البنية التحتية اللوجستية، ورفع مستوى جاهزية القوات الأوروبية، وتأمين قوة ردع نووية فعالة.
تعد الجهود الراهنة لتسريع مشاريع إعادة التسلح العسكري في أوروبا أبرز مؤشر على إدراك خطورة الموقف، إذ تجري مناقشات مكثفة بشأن آليات تمويل مشتركة لرفع ميزانيات الدفاع الوطنية، وإنشاء مشروعات تعاونية لتعزيز القدرات العسكرية الجماعية.
ومن بين المبادرات التي تحظى باهتمام خاص، مشروع الدرع الجوي الأوروبي، الذي يهدف إلى سد الثغرات الكبيرة في أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي بالقارة.
كما يجري التركيز على تعزيز قدرات النقل العسكري، مثل الطائرات الثقيلة وإعادة التزود بالوقود جوًا، وهي مجالات تعتمد فيها أوروبا بشكل شبه كامل على القدرات الأمريكية.
لكن المشكلة لا تقتصر على العتاد؛ إذ تعاني الجيوش الأوروبية من نقص في الذخائر بعيدة المدى والبنية اللوجستية العسكرية واسعة النطاق، ويرى خبراء أن امتلاك أوروبا لهذه الأصول الاستراتيجية سيشكل تحولاً كبيرًا، إذ سيمكّنها من تنفيذ عمليات عسكرية معقدة دون الحاجة إلى الدعم الأمريكي.
ورغم أن بعض القادة الأوروبيين يعترفون بضرورة الاستقلال العسكري، إلا أنهم يؤكدون أن أوروبا لا تزال بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الدفاع.
ويبرز في هذا السياق النموذج الفرنسي، حيث اضطرت باريس إلى الاعتماد على الدعم الأمريكي خلال عملياتها العسكرية في مالي عام 2013، سواء في نقل المعدات أو إعادة تزويد مقاتلاتها بالوقود جوًا من قواعد أمريكية في إسبانيا.
أما فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، فقد اتفق القادة الأوروبيون، خلال اجتماعهم في باريس، على أن أي نشر لقوات حفظ سلام أوروبية هناك لا يمكن أن يتم دون دعم أمريكي.
ويعكس هذا الموقف مدى الارتباط الوثيق بين الأمن الأوروبي والوجود العسكري الأمريكي، وهو ارتباط تشكل على مدار 8 عقود، مما يجعل تعويضه أمرًا بالغ التعقيد ومكلفًا للغاية.
وتزداد المخاوف الأوروبية مع احتمال أن يقرر ترامب خفض عدد القوات الأمريكية المنتشرة في القارة، والتي يبلغ قوامها نحو 90 ألف جندي، خاصة أن إدارة بايدن سبق أن عززت هذا الحضور بإرسال 20 ألف جندي إضافي إلى بولندا ورومانيا ودول البلطيق عقب بدء الحرب الروسية الأوكرانية.
رغم تأكيد ترامب مؤخرًا أنه لا ينوي سحب جميع القوات الأمريكية من أوروبا، إلا أن موقفه يظل غامضًا، لا سيما مع تصريحه بأنه سيدعم نشر قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا بعد انتهاء الحرب.
وفي المقابل، أبدت بعض الدول الأوروبية، مثل بولندا، تحفظًا على إرسال قواتها إلى أوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى تركها مكشوفة أمام أي تهديد روسي مباشر.
نظريًّا، تمتلك أوروبا ما يكفي من القوات لحماية حدودها، حيث يقدر عدد أفراد الجيوش الأوروبية بنحو 2 مليون جندي، منهم 1.3 مليون داخل الاتحاد الأوروبي، لكن المشكلة تكمن في أن جزءًا كبيرًا من هذه القوات غير مؤهل للانتشار الفوري، بسبب ضعف الجاهزية ونقص المعدات والذخائر.
تعيد هذه التحديات إلى الواجهة مسألة الردع النووي، إذ تعتمد أوروبا حاليًا على المظلة النووية الأمريكية، خصوصًا فيما يتعلق بالأسلحة النووية التكتيكية، التي تستخدم لاستهداف مواقع محددة وليس تدمير مدن بأكملها، وهي القدرات التي تمتلكها روسيا بكثافة بينما تفتقر إليها أوروبا.
ورغم امتلاك فرنسا وبريطانيا نحو 515 رأسًا نوويًا، فإن معظمها يُصنف ضمن الأسلحة الاستراتيجية، ما يترك فجوة يمكن لموسكو استغلالها لتعزيز موقفها العسكري، ولطالما سعت أوروبا إلى تحقيق استقلال دفاعي، بدءًا من محاولات إنشاء “مجتمع الدفاع الأوروبي” في خمسينيات القرن الماضي، لكن جميع هذه الجهود باءت بالفشل.
غير أن المشهد الراهن يبدو مختلفًا، مع تنامي القلق بشأن التغيرات في السياسة الأمريكية، وهو ما يدفع بعض القادة الأوروبيين إلى تأكيد ضرورة تبني عقلية جديدة تعتمد على تعزيز القوة الذاتية، كما قال الرئيس الفنلندي السابق ساولي نينيستو: “لا يمكنك تجنب الحرب وأنت ضعيف”.