لماذا يتخوف المصريون من “المراجعة الرابعة” لصندوق النقد؟

في نوفمبر المقبل من المقرر أن يبدأ صندوق النقد الدولي “المراجعة الرابعة” لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، خطوة تثير مخاوف المصريين من أن تؤدي إلى زيادة في الأسعار في ضوء تمسك الصندوق بمطالبه برفع الدعم الحكومي للخدمات وتحرير سعر الصرف.

هذه المخاوف حاول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تبديدها خلال كلمته بالمؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية المنعقد في القاهرة حين أكد أن الاتفاق مع الصندوق الدولي إذا وصل بالمصريين لـ”وضع غير محتمل” فستجري مراجعته.

في ديسمبر 2022 وافق الصندوق على منح مصر 3 مليارات دولار، وفي أبريل وافق على زيادة قدرها 5 مليارات دولار لـ”الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتصحيح الانحراف في مسار السياسات”، حسبما أعلن الصندوق وقتها. صرفت إدارة الصندوق 3 دفعات (شرائح) منه، مع توقعات بأن يبدأ الصندوق “المراجعة الرابعة” في نوفمبر المقبل تمهيدًا لصرف الشريحة الرابعة من القرض بقيمة 1.3 مليار دولار.

تاريخ قديم وتعاون لا يكتمل

في 1956 تراجعت أميركا ومن ورائها البنك الدولي عن الموافقة على تمويل بناء السد العالي وهو المشروع الذي التف حوله المصريون آنذاك. كان هذا القرار سببا مباشرا لاتخاذ الرئيس المصري جمال عبدالناصر وقتها قرار مضاد بتأميم قناة السويس.

هذا الاشتباك خلّده المطرب عبدالحليم حافظ في أغنية شهيرة بعنوان “حكاية شعب” قال فيها “راح على البنك اللي بيساعد ويدّي قالّه حاسب قالنا ملكمش عندي”. هذه الأغنية اعتبرت أن محاولات البنك الدولي إعاقة بناء السد العالي هي امتداد لخطايا قوى “الاستعمار الغربي” في مصر مثلها مثل “حادثة دنشواي”، التي أعدم فيها الجيش الإنكليزي -خلال احتلال مصر- 4 فلاحين وسجن العشرات وجلد آخرين أمام أسرهم بعدما اتهموهم بالتورط في مقتل أحد الضباط الإنكليز.

رغم أن “البنك الدولي” هو من رفض بناء مشروع السد العالي وليس “صندوق النقد” إلا أن موقفه انسحب على جميع المؤسسات الدولية المانحة ورسّخت نظرة المصريين السلبية ضدها وضد التعاون معها.

“هذا الهاجس حاضر دائما في نفوس المصريين”، هكذا بدأ أستاذ علم الاجتماع السياسي عمار علي حسن حديثه لـ”الحرة”، مؤكدا أن المصريين يمتلكون تجربة تاريخية مؤلمة في التعامل مع المؤسسات الأجنبية المانحة منذ عهد الخديوِي إسماعيل حين تمت الاستدانة بإسراف فترتب على ذلك فرض الوصاية الخارجية على الميزانية العامة المصرية وبعدها جاء الاحتلال الإنكليزي.

وبحسب أستاذ علم الاجتماع السياسي فإنه خلال هذه الفترة كثيرا ما انتقد عبدالناصر البنك الدولي وصندوق النقد في خطاباته، والجيل الشاب الذي استمع لها كبر الآن وصاروا آباء وأجدادا ولا يزال يحتفظ بهذا “الموقف النفسي”.

ربما لعب هذا “الموقف النفسي” دورا سلبيا في فشل أغلب اتفاقات مصر مع صندوق الدولي خلال السنوات اللاحقة لتأميم قناة السويس؛ ففي 1962 وقعت مصر أول برنامج اقتصادي يتعاون معها الصندوق في أدائه لتوفير 5 ملايين دولار (Stand by) رهن طلب القاهرة الفوري إذا ما احتاجت إليها، وهي خطوة تكررت كثيرا في السنوات اللاحقة كلما احتاجت مصر دعما ماليا لميزانيتها السنوية.

في أغلب الأحوال كانت مصر لا تستكمل بنود هذه البرامج حتى النهاية لأنها عادة ما تشمل الشروط المعتادة من ضرورة خفض سعر الجنيه أمام الدولار ورفع أسعار المنتجات البترولية وفرض ضرائب جديدة لتقليل عجز الموازنة والإسراع في تنفيذ برامج خصخصة الشركات والبنوك العامة.

طيلة فترة الثمانينيات عاشت مصر أزمة كبيرة بسبب تراكم ديونها الخارجية حتى بلغت 49.9 مليار دولار بما يزيد عن 145 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي حينها حسبما أعلن البنك الدولي، الأمر الذي خلق عبئا كبيرا على ميزانية الدولة وأصبح مجرد الوفاء بأقساط “خدمة الدين” يستنزف قدرا كبيرا من احتياطي مصر من العملات الأجنبية.

بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 تلقى الاقتصاد المصري قُبلة الحياة بعد مشاركة مصر الفعّالة في تحرير الكويت من العراق، عندها قررت الولايات المتحدة إعفاء مصر من ديونها العسكرية كما دعت الدول الدائنة لمؤتمر في باريس لبحث مناقشة شطب نصف ديونها على مصر.

في باريس بادرت السعودية والكويت بشطب إجمالي الديون (6 مليارات دولار تقريبا) دون قيدٍ أو شرط، أما الدول الأخرى (اليابان وعدة دول أوروبية) فأبدت استعدادها لشطب نصف الديون (4 مليارات دولار تقريبا) بشرط أن تتوصل مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد حول برنامج إصلاح اقتصادي جذري.

يحكي الدبلوماسي المصري عبد الرؤوف الريدي في كتابه “رحلة العمر: مصر وأميركا: معارك الحرب والسلام” جانبا من كواليس هذه المفاوضات التي شهدت إصرار الصندوق على تبني سياسات اقتصادية تقوم على رفع الدعم وتحرير سعر الصرف.

بحسب كتاب “المواطنة المصرية ومستقبل الديمقراطية”، فإن الصندوق “ظل يعرقل إسقاط 4 مليارات دولار من ديون مصر تمثل شريحة من الديون التي تم الاتفاق على إسقاطها بشرط إحراز تقدم في تطبيق برامج إصلاح اقتصادي”.

وفي 1996 نفّذت مصر -لأول مرة- برنامجا إصلاحيا كاملا للاقتصاد بدعم من الصندوق استمر عامين تقريبا بعد مفاوضات “صعبة” بسبب رفض الحكومة الاستجابة لمطالب الصندوق بخفض سعر صرف الجنيه أمام الدولار حسبما روى رئيس الوزراء المصري آنذاك كمال الجنزوري في كتابه “مصر والتنمية وحكومة الجنزوري”.

أسطورة “صندوق النكد”

قال عمار علي حسن لـ”الحرة”، إن النخبة المثقفة من المصريين مُطلعة على تجارب صندوق النقد في بلدان أخرى تدخّل من أجل “هندسة اقتصادها” وكيف انتهى ذلك إلى مشكلات كبرى لهذه البلدان، هذه النخبة تنقل هذا الوعي إلى الشعب وتتسبب في نفورها من سياساته.

اعتبر رئيس وزراء مصر الأسبق حازم الببلاوي في كتابه “4 شهور في قفص الحكومة” أن مشكلة تعامل صندوق النقد الدولي مع الدول النامية هو أنه يسعى فقط إلى تحقيق التوازن النقدي للدولة المقترضة دون مراعاة للنتائج الاجتماعية لسياساته، لذا فإنه في أغلب الأحيان تشهد الدول التي تسير بنصائحه انتفاضات شعبية معارضة لها.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنشئ صندوق النقد بجانب البنك الدولي للإنشاء والتعمير بهدف المساعدة في إعادة إعمار أوروبا وهي المهمة التي تحققت بسرعة بفضل مشروع مارشال الأميركي، بعدها بدأ البنك الدولي في التعامل مع الدول النامية من الخمسينيات أما صندوق النقد فظل أغلب عمله مع الدول الصناعية المتقدمة حتى سبعينيات القرن الماضي ما جعله أقل حساسية بمشكلات العالم النامي من البنك الدولي.

وبالرغم من أن الصندوق وعَى ذلك خلال السنوات الأخيرة وبات يأخذ الجوانب الاجتماعية والسياسية في اعتباراته الاقتصادية، إلا أن “إرث الماضي” لا يزال يُلاحقه حتى اليوم، فكثيرا ما يُتهم بأنه ليس مؤسسة محايدة وإنما يسعى لاستغلال حاجة الدول الفقيرة ليجبرها على اتباع أجندة سياسية غربية مقابل الموافقة على مساعدتها.

لذا شاع في الأوساط المصرية لقب ساخر على الصندوق وهو “النكد الدولي”، وهي تسمية لم يقتصر استخدامها على عوام المصريين وحسب بل استعملها مسؤولون بارزون بالدولة على رأسهم الرئيس الراحل حسني مبارك.

بحسب منير زهران في كتابه “شاهد على الدبلوماسية المصرية”، فإن مبارك كثيرا ما كان يرفض فكرة الاقتراض من الصندوق بسبب “شروط المجحفة”، وأنه وصفه يوما بـ”صندوق النكد الدولي”، هذا الرفض استمر طيلة عهد مبارك رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي عرفتها مصر طيلة فترة حكمه تقريبا.

بجانب هذا الموقف تعددت الإشارات التي انتقد فيها مبارك مفاوضات الإصلاح مع صندوق النقد التي وصفها بـ”الزرجنة” (التعقيد الشديد باللغة العامية المصرية)، كما أنه اتهم يوما الصندوق بأن وصاياه سـ”تُغرق مصر” وأنه لا يتهم بالفقراء ولا يراعي مصالحهم ضمن توصياته.

“خلال خطاباته لم يتورّع مبارك عن الربط المباشر بين الاستجابة لتعليمات الصندوق وبين زيادة معاناة الشعب”، قال عمار علي حسن.

بعد اندلاع ثورة يناير2011 تعرضت مصر لضغوط اقتصادية كبيرة جعلها بحاجة إلى دعم مالي عاجل، وحسبما شهد سمير رضوان وزير المالية وقتها، التي وثقها أستاذ الاقتصاد بجامعة الإسكندرية كمال الوصّال في كتابه “الاقتصاد المصري بين المطرقة “، فإنه عندما لجأ إلى الدول العربية وعدت السعودية بقرابة 3.7 مليار دولار والإمارات 3 مليارات دولار وقطر 10 مليارات دولار، لم يصل الخزانة المصرية منها حتى نهاية العام سوى 500 مليون دولار من السعودية.

هذا التقاعس اضطر بالحكومة المصرية وقتها إلى التفكير في اللجوء إلى صندوق النقد الدولي فجرى الاتفاق معه على تقديم قرض بقيمة 3.2 مليار دولار مصر بشروط جيدة فسعر الفائدة لا يتجاوز 1.5 في المئة مع فترة سماح 3 سنوات يٌسدد بعدها القرض على 20 عاما.

رغم ذلك رفض المجلس العسكري -رأس السُلطة السياسية في البلاد وقتها- تنفيذ هذا الاتفاق بدعوى أن شروط الصندوق “تتعارض مع الكرامة الوطنية”، وبدلا من ذلك اتخذت إجراءات أكثر قسوة لتقليل عجز الموازنة عبر تخفيض بعض بنودها وإصدار أذون خزانة يبلغ سعر فائدتها 16في المئة بجانب تلقي دعم بقيمة مليار دولار من الجيش، حسبما روى حازم الببلاوي في كتابه “4 شهور في قفص الحكومة”.

للتعبير عن الرفض الشعبي لهذا القرض أطلق عازف الغيتار ياسر المناوهلي أغنية تسخر من الاتفاق مع الصندوق، تقول “الحقنى في عرضك.. كلبشنى بقرضك.. ارتع فى بلادنا واعتبرها أرضك”.

يقول عمار علي حسن، إنه بعيدا عن التصريحات والتجارب التاريخية، لكن الأهم هو المعاناة التي يعيشها المصريون حاليا على وقع الاستجابة لوصايا صندوق النقد الدولي خلال السنوات الأخيرة.

ويضيف: “الحكومة تتحدث دائما أنها بحاجة إلى تسديد الديون وبحاجة إلى تعويم العملة المحلية بناء على تعليمات صندوق النقد، هذه السياسات لن تؤدي إلا إلى المزيد من إفقار المصريين”.

وبحسب عمار فإن بعض الدول الرأسمالية بدأت تنظر في توسيع الدور الاجتماعي للدولة بعد ظهور نظريات جديدة تنادي بما أسمته “الليبرالية الاجتماعية” أو ما يُعرف بـ”الطريق الثالث”، رغم ذلك فإن صندوق النقد لا يزال متمسكا بنظرياته الاقتصادية “القديمة” ويُجبر الدول التي ترغب في الاقتراض منه على اتباعها، يقول عمار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *