مختار نوح يكشف أسرار “التنظيم الخاص” داخل الإخوان المسلمين

في إطار سلسلة “مراجعات” التي تبث عبر قناة العربية، استضاف الأكاديمي والباحث والإعلامي ضياء رشوان المحامي والنقابي والسياسي مختار نوح، الذي أمضى ربع قرن داخل صفوف تنظيم الإخوان المسلمين وضمن قياداتها قبل أن يقرر مغادرتها نهائياً.

في هذا الحوار الشيق، استعرض نوح رحلته من الانضمام إلى التنظيم، والتجارب التي مر بها، وصولاً إلى التحولات الفكرية التي دفعته للانفصال عن التنظيم.

في البداية، لم يكن انضمام مختار نوح إلى تنظيم الإخوان المسلمين تقليدياً كما كان الحال مع الكثيرين من جيله. بينما كان الأغلبية ينضمون إلى الجماعة أثناء فترة الجامعة، اختار نوح طريقاً مختلفاً. تخرج من الجامعة قبل انضمامه بخمس سنوات، وهي الفترة التي استغلها للتأمل حول مستقبله وسبل تحقيق العدالة الاجتماعية التي طالما حلم بها.

يقول نوح في حديثه لرشوان “كنا في تلك الفترة متأثرين بالفكر الناصري وشعارات العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الفقراء. كانت هذه الأفكار تدفعنا للبحث عن طرق جديدة للوصول إلى هذه الأهداف”، مؤكداً أن حرب أكتوبر 1973 قد تركت أثراً كبيراً في نفس نوح وجيله، حيث بدأت تظهر شعارات جديدة تدعو إلى القضاء على الفساد والانتصار للفقراء، وهي شعارات كان التنظيم يرفعها في ذلك الوقت.

خلال بحثه عن كيان سياسي يحقق له ذلك الطموح، يعثر نوح عليه في تنظيم الإخوان من خلال لقائه الأول مع المرشد العام للتنظيم في ذلك الوقت، عمر التلمساني ، بحسب مايروي لرشوان. هذا اللقاء كان نقطة تحول حاسمة في حياته، فيصفه قائلاً: “التقيت بعمر التلمساني في لقاء خاص، وأتذكر كيف وعدني بأن الإنسان من خلال التنظيم سوف يجد كل ما يرنو إليه من أحلام”. هذا الوعد كان بمثابة الضوء الأخضر لنوح للانضمام إلى الجماعة، خاصة بعد أن رأى في التلمساني رجلاً يحمل نفس القيم والأهداف التي كان يبحث عنها.

على الرغم من أنه لم ينضم إلى التنظيم أثناء الجامعة، إلا أن فترة ما بعد التخرج كانت فترة تفكير عميق بالنسبة لنوح. كان يسعى لفهم الطريقة المثلى لتحقيق العدالة الاجتماعية التي طالما حلم بها. يقول نوح: “كانت الفترة ما بعد الجامعة محتاجة فترة تفكير في منهج قد يصل بالإنسان إلى هذه الدرجة، فكان اختياري لمنهج الإخوان عن طريق عمر التلمساني”.

خلال هذه الفترة، بدأت تتضح لنوح بعض التحديات التي سيواجهها داخل التنظيم، حيث كانت البيئة داخل الإخوان مختلفة تماماً عن توقعاته، لكنه كان مقتنعاً بأن هذا التنظيم يحمل في طياته الحلول التي كان يبحث عنها. كان يرى في التلمساني رجلاً ملهماً، ورغم أن الجماعة كانت تخضع لضوابط تنظيمية صارمة، إلا أن نوح كان مؤمناً بأنه يمكنه المساهمة في تحقيق تغيير إيجابي من داخلها.

 

بعد انضمامه، بدأ نوح في التدرج داخل التنظيم، حيث تولى العديد من المسؤوليات التي عمقت من تجربته وأعطته نظرة أكثر شمولاً على كيفية عمل الجماعة من الداخل. بدأت مسيرته في شعبة شبرا، مروراً بالقسم السياسي المركزي، ووصولاً إلى اللجنة الإعلامية المركزية. في هذا السياق، يعبر نوح عن تجربته قائلاً: “استمررت في التجربة إلى أن تدرجت في النواحي العضوية في الجماعة والناحية التنظيمية”.

كانت هذه الفترة مليئة بالتحديات، خاصة عند اكتشافه لتنظيم خاص داخل التنظيم. يقول نوح: “فكرة التنظيم الخاص هي الأصل، والتنظيم العلني هو نوع من أنواع التقية”. كان هذا التنظيم السري بمثابة الدولة العميقة داخل الإخوان، ويهدف إلى تحقيق السيطرة الكاملة على مختلف مفاصل الدولة عند الوصول إلى السلطة.

تحدث نوح عن رحلته في اكتشاف تفاصيل التنظيم وعمله من الداخل. كان نوح، الذي يتمتع بشخصية قوية وآراء حازمة، يفرض رأيه في العديد من الأمور داخل التنظيم، حتى تلك التي كانت تتعارض مع سياساتها. يقول نوح: “دائماً كنت صاحب فرض وسطوة، يعني أنا كنت أفرض على التنظيم ما يتعارض معهم”، مشيراً إلى مواقفه القوية تجاه العديد من القضايا.

من بين التحديات التي واجهها نوح داخل الجماعة كان موضوع الموسيقى والفنون، حيث كان يعزف العود وله إبداعات شعرية وأدبية. كان من الصعب عليه التوفيق بين هذه الهوايات ومتطلبات الانضباط الصارمة داخل التنظيم. لكن دعم عمر التلمساني له، الذي كان هو الآخر يحب العود والشعر، ساعد نوح على التكيف مع هذا التضارب.

مع مرور الوقت، لاحظ نوح وجود تنظيم خاص داخل الإخوان، وهو تنظيم سري يعمل بشكل مستقل عن الهيكل التنظيمي العلني. كانت هذه الاكتشافات بداية لتغير نظرة نوح للتنظيم ودورها الحقيقي. يروي نوح: “اكتشفت أن التنظيم الخاص هو الأصل، والتنظيم العلني هو نوع من أنواع الظهور بمظهر سلمي والانخراط في الأدوات السياسية”.

كانت قضية التنظيم الخاص تُعرف باسم قضية 122، بحسب نوح، وكانت تضم أسماء بارزة مثل محمود عزت وخيرت الشاطر. كان هذا التنظيم يهدف إلى السيطرة على المناصب القيادية، ويعمل بسرية تامة بعيداً عن أعين الأعضاء العاديين وحتى بعض القيادات. يقول نوح: “قضية 122 كانت قضية التنظيم الخاص، وتم ضبطها في معسكر بالإسكندرية، وكان الهدف منها إحلال القيادات محل القيادات”.

لم يكن التنظيم الخاص مجرد فكرة جديدة بل كان جزءاً أساسياً من تاريخ التنظيم منذ نشأته. يوضح نوح: “فكرة التنظيم الخاص لم تكن من إبداع محمود عزت أو خيرت الشاطر، بل هي من حسن البنا نفسه. وكان من المفروض أن تموت بناء على اتفاق مع السادات ثم مع عمر التلمساني”.

عندما بدأت تظهر ملامح التنظيم الخاص، كان نوح من أوائل من اكتشفوا هذا السر وعملوا على مواجهته. يقول: “طلب مني عمر التلمساني أن أحاول أن أطلع على هذه القضية دون أن يدري أحد، فاكتشفت أن التنظيم الخاص هو الذي يسيطر على كل الأدوات والأسر”.

كانت هذه الاكتشافات بداية تحول جذري في رؤية نوح للجماعة ودورها. بدأ يدرك أن هناك جزءاً كبيراً من التنظيم يعمل في الخفاء، ويهدف إلى تحقيق أهدافه بطرق غير مشروعة. يقول نوح: “التنظيم الخاص له أهدافه الخاصة التي تختلف عن التنظيم العلني. هو الذي يختار المسؤولين عن البرلمان واللجنة الدستورية ومجلس الوزراء، وحتى رؤساء الأحزاب”.

كانت السيطرة على المناصب القيادية جزءاً من استراتيجية التنظيم الخاص لتحقيق التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة. يضيف نوح: “عندما نتحدث عن برلمان يجب أن يتم اختيار مسؤول البرلمان من التنظيم الخاص. كانت كل المناصب الهامة يتم اختيارها من قبل التنظيم الخاص لضمان السيطرة الكاملة”.

تجربة نوح داخل التنظيم لم تكن فقط عن الأدوار والمسؤوليات، بل كانت أيضاً عن اكتشاف الحقائق الخفية والتعامل مع التناقضات الداخلية. يقول نوح: “مع الوقت، بدأت تظهر خلافات ومشاحنات بين الأعضاء، وبدأ يتضح أن هناك أشياء أخرى تحرك الجماعة من الداخل”.

تحدث نوح عن التناقضات بين ما يدعو إليه التنظيم من قيم ومبادئ وبين الممارسات الفعلية. يشرح نوح خلال حديثه لرشوان: “كلما ارتقيت في المناصب داخل الجماعة، كنت أرى المزيد من الأمور التي لا تتوافق مع ما تعلمته عن الدين والأخلاق”، مشيراً إلى وجود فجوة كبيرة بين الشعارات المرفوعة والواقع، ما جعله يشعر بخيبة أمل كبيرة.

من أبرز التناقضات التي واجهها نوح هو استخدام العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف، فيوضح نوح: “التنظيم الخاص يعتمد على العنف كجزء أساسي من استراتيجيته. العنف له توقيت، وإذا كان التوقيت خاطئا يعتبر تم إفشاء التنظيم الخاص”، مؤكداً أن تلك الاستراتيجية بعيدة كل البعد عن المبادئ الإسلامية التي تربى عليها نوح.

أحداث يناير 2011 كانت نقطة تحول حاسمة في حياة نوح، حيث شهد خلال تلك الفترة كيف أن التنظيم الخاص كان يدير الأمور من خلف الكواليس، بدءًا من نصب المنصات في ميدان التحرير إلى تنظيم الحشود والتعامل مع التغطية الإعلامية.

يتابع نوح: “التنظيم الخاص تولى من أول نصب المنصة في ميدان التحرير إلى توزيع الميكروفونات والمواد التموينية، وحتى الحراسة والتأمين”، وفي هذه المرحلة، بدأ نوح يدرك أن هناك الكثير من الأكاذيب والتضليل داخل الجماعة. يقول: “بعدما درست التنظيم الخاص بكل فروعه، اكتشفت أن التنظيم الخاص يده على الزناد أقرب من يده على المصحف. أسهل شيء يستخدمه هو الزناد”. هذا الإدراك كان بمثابة الصدمة التي جعلت نوح يراجع كل شيء تعلمه واعتقده خلال سنواته الطويلة في الجماعة.

موقف الجماعة من أحداث العنف كان يؤكد مخاوف نوح. يضيف: “التنظيم الخاص جزء منه هو التصفية والتمكين بالقوة. أحداث يناير أوضحت أن بعض إخواننا الثوريين والمناضلين كانوا أدوات في يد التنظيم الخاص”. كانت الجماعة تستخدم الأعضاء دون أن يدركوا أنهم جزء من خطة أكبر تهدف للسيطرة والتمكين بأي ثمن.

ومن الأمثلة التي أوردها نوح على استخدام العنف من قبل التنظيم الخاص، كانت حادثة الأزهر عام 1996، حيث قام تنظيم الإخوان بإنشاء ميليشيات خاصة داخل الحرم الجامعي، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في مصر آنذاك. يقول نوح: “كانت هذه الحادثة بمثابة بالونة اختبار لاكتشاف رد فعل الدولة، وعندما لم تتخذ الدولة إجراءات صارمة، اعتبر التنظيم الخاص ذلك إشارة إلى إمكانية تصعيد العنف”.

يؤكد نوح أن شخصية حسن البنا، مؤسس الجماعة، لعبت دورًا كبيرًا في هذه التحولات الفكرية لديه، فيقول نوح: “حسن البنا كان يستخدم الدين كأداة لتحقيق أهدافه الشخصية والتنظيمية. لقد كان بارعًا في التلاعب بالعواطف واستغلال الحماس الديني”. كانت هذه النقطة تحديدًا ما جعلت نوح يعيد النظر في كل شيء ويتساءل عن حقيقة التنظيم ومؤسسه.

نوح لم يكن الوحيد الذي شعر بهذه التناقضات. يوضح: “كثير من الأعضاء كانوا يشعرون بنفس الحيرة، لكنهم يخشون التعبير عن آرائهم خوفًا من العواقب”. كان هناك الكثير من الخوف والترهيب بالداخل، ما جعل العديد من الأعضاء يلتزمون الصمت حفاظًا على سلامتهم.

في النهاية، قرر نوح أن يترك التنظيم بشكل نهائي، مدفوعًا بالتحولات الفكرية والحقائق التي اكتشفها. يقول: “الوقت قد حان لأترك التنظيم وأبدأ في البحث عن طريق جديد”. كانت هذه الخطوة شجاعة، بحسب مايروي، لكنها كانت ضرورية للتحرر من القيود والانطلاق نحو فضاء أوسع من الحرية والتفكير المستقل.

هذه المرحلة كانت بداية جديدة لنوح، حيث بدأ يتحدث بشكل علني عن تجربته ويكشف الحقائق المخفية. يقول: “لم أكن أطيق أن أسمع إنكار قضية حادث المنشية أو أي أحداث عنف أخرى. كان لا بد أن أكشف الحقيقة”. كانت هذه الشهادة جزءًا من دوره الجديد كمفكر وناقد للتنظيم، يسعى لكشف الحقيقة وتوعية الناس بخطر هذه التنظيمات.

 

خلال فترة وجوده في تنظيم الإخوان المسلمين، شهد مختار نوح تأثير التيار القطبي بشكل كبير. التيار القطبي هو تيار فكري داخل الإخوان يتبع أفكار سيد قطب، الأديب والمفكر الإسلامي الذي انضم للجماعة في خمسينيات القرن العشرين وأصبح مرجعية رئيسية لها. يقول نوح: “كان سيد قطب أديبًا ولم يكن فقيهًا أو مفسرًا، لكن تأثيره الأدبي كان طاغيًا على جيل كامل”.

سيد قطب، المعروف بكتابه “في ظلال القرآن” و”معالم في الطريق”، قدّم تفسيرات ونظريات كانت تعتبر ثورية في وقتها، لكنها أيضًا كانت تحوي على أفكار متطرفة وعنيفة. يشير نوح إلى أن هذه الأفكار كانت سببًا رئيسيًا في تشكيل عقليات الأجيال التي تربت داخل التنظيم. يقول نوح: “نظريات مثل جاهلية المجتمع، والحاكمية، وجنسية المسلم عقيدته، كلها كانت من ابتكارات سيد قطب وأثرت بشكل عميق في فكر التنظيم”.
بحسب نوح، الأفكار القطبية داخل الإخوان لم تكن مجرد أفكار نظرية، بل كانت توجهات عملية تُطبق في الواقع، فيوضح: “منهج التنظيم السري كله كان قطبيًا، وكانت قوانين جاهلية المجتمع واستحلال العنف جزءًا من هذا المنهج”. هذا التأثير لم يكن محصورًا على الجانب الفكري فقط، بل امتد ليشمل الجانب التنظيمي والعملياتي داخل التنظيم.

منذ انضمام سيد قطب إلى الجماعة وحتى بعد إعدامه في عام 1966، ظل تأثيره قائمًا ومستمرًا، فيشرح نوح كيف أن القيادات التي جاءت بعد قطب، مثل محمود عزت ومحمود حسين، كانت تتبع نفس النهج الفكري قائلا: “كانوا يتجنبون تدريس كتبه بشكل علني لتجنب الصدام مع منتقديه، لكن تأثيره كان واضحًا في كل قراراتهم”.

تطرق نوح إلى المفاهيم الأساسية في الفكر القطبي المسؤولة عن الغلو والعنف، مثل مفهوم “جاهلية المجتمع” كان من الأفكار الأساسية التي روج لها سيد قطب، ويعني أن المجتمع المسلم المعاصر يعيش في حالة جاهلية شبيهة بتلك التي كانت قبل الإسلام. هذا المفهوم دفع العديد من الأعضاء إلى النظر إلى مجتمعاتهم بنظرة دونية، معتبرين أنها بعيدة عن الإسلام الحقيقي. يقول نوح: “هذه النظرة كانت تخلق حالة من العزلة الشعورية بين أعضاء التنظيم والمجتمع، وتجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون في بيئة معادية للإسلام”.

أما مفهوم “الحاكمية”، والذي يشير إلى أن الحكم يجب أن يكون لله وحده من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية، فقد كان له تأثير كبير على توجهات الجماعة السياسية. يشرح نوح: “كانت فكرة الحاكمية تدفع الأعضاء إلى السعي لتحقيق السلطة بأي وسيلة، بما في ذلك العنف، لتحقيق ما يعتقدون أنه حكم الله”. هذا المفهوم كان يعزز النزعة الاستبدادية داخل التنظيم ويبرر استخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية.

التعليمات المستمدة من أفكار قطب كانت تُفرض على الأعضاء بشكل غير مباشر، يتابع نوح: “حتى لو لم يُذكر اسم سيد قطب صراحة، كان الأعضاء يُجبرون على قراءة كتبه والالتزام بتعاليمه”. هذا الأسلوب في التعليم والتوجيه جعل من الأفكار القطبية جزءًا لا يتجزأ من هوية الجماعة وأسلوب عملها.

تأثير التيار القطبي لم يكن مقتصرًا على جماعة الإخوان فقط، بل امتد إلى جماعات إسلامية أخرى تتبنى نفس الأفكار المتطرفة. يوضح نوح: “جماعات مثل التكفير والهجرة، والجماعات الجهادية الأخرى، استمدت الكثير من أفكارها من سيد قطب”. هذا الانتشار الواسع للأفكار القطبية يعكس مدى تأثيرها وخطورتها على المجتمعات الإسلامية.

داخل الإخوان، كانت هناك مجموعات تُعرف بالـ”عشرات”، وهي مجموعات من الأعضاء الذين سجنوا مع سيد قطب في قضية عام 1965. هؤلاء الأعضاء، مثل محمود عزت ومحمود حسين، تولوا مناصب قيادية بعد الإفراج عنهم في عام 1974 بقرار من الرئيس السادات، ويعتبر نوح أن هؤلاء الأعضاء حملوا أفكار قطب ودافعوا، مما جعلهم قوة مؤثرة داخل الجماعة.

تحدث نوح عن أن الصراع بين التنظيم العلني والتنظيم الخاص كان يمثل جزءًا من التوترات الداخلية داخل تنظيم، حيث يوضح:”التنظيم الخاص كان هو الذي يسيطر على كل شيء، من اختيار القيادات إلى التخطيط للأنشطة. بينما كان التنظيم العلني يعمل كواجهة لعرض صورة سلمية ومعتدلة للجماعة”. هذا الانفصام بين ما يُعرض للجمهور وما يحدث في الخفاء كان من الأمور التي دفعت نوح للتساؤل عن مدى صدق ونزاهة الجماعة.

بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك قضايا أخرى تتعلق بالشفافية والمساءلة داخل التنظيم. يشير نوح إلى أنه كان هناك غياب كبير للشفافية في إدارة الأموال والموارد. يقول: “كانت هناك قضايا مالية مشبوهة واختلاسات لم يتم محاسبة المسؤولين عنها بشكل عادل”. هذه القضايا كانت تزيد من شعور نوح بالخيبة والإحباط تجاه الجماعة.

الصراعات الداخلية لم تكن تقتصر فقط على القضايا المالية والتنظيمية، بل كانت تمتد أيضًا إلى الصراعات الشخصية بين الأعضاء. يوضح نوح: “كان هناك الكثير من الحسد والمنافسة غير الصحية بين الأعضاء. بدلاً من التعاون والعمل من أجل الأهداف المشتركة، كانوا يتصارعون على المناصب والنفوذ”.

في خضم هذه التوترات، حاول نوح مرارًا وتكرارًا مواجهة القيادات والإشارة إلى الأخطاء والتجاوزات. يقول: “كنت أحاول دائمًا التحدث مع القيادات حول ما أراه من مشكلات، لكن الردود كانت دائماً جاهزة: ‘نحن في وضع استثنائي'”. هذا الرد لم يكن كافيًا لإقناع نوح، الذي كان يسعى لفهم الحقيقة والكشف عن التناقضات داخل الجماعة.

الصراعات الداخلية والمشكلات التنظيمية لم تكن الأمور الوحيدة التي دفعت نوح لمغادرة التنظيم. كانت هناك أيضًا قضايا فكرية وأيديولوجية عميقة. يوضح نوح: “بدأت ألاحظ أن الأفكار التي تعلمتها عن الدين والأخلاق لم تكن تُطبق بشكل فعلي داخل التنظيم”. هذا التناقض بين النظرية والتطبيق كان يشكل تحديًا كبيرًا لنوح، الذي كان يسعى لتحقيق توافق بين ما يؤمن به وما يراه في الواقع.

القرار بالاستقالة والخروج من جماعة الإخوان لم يكن سهلاً. يقول نوح: “بعد خمس وعشرين سنة داخل التنظيم، أدركت أنني لم أعد أستطيع التعايش مع هذه التناقضات”. كان هذا القرار ناتجًا عن صراع طويل ومعقد بين المبادئ والممارسات، وبين ما كان يأمل في تحقيقه وما واجهه من حقائق مريرة.

 

واحدة من النقاط الحاسمة في قرار نوح بالانسحاب كانت تجربته داخل السجن. في عام 1999، تم اعتقال نوح وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، بتهمة الانتماء لتنظيم محظور وممارسة أنشطة غير قانونية. خلال فترة سجنه، بدأ نوح يراجع أفكاره ومواقفه تجاه التنظيم. يقول: “السجن كان فرصة لي لأفكر وأراجع كل شيء. بدأت أدرك أن الجماعة كانت تسير في اتجاه بعيد عن القيم والمبادئ التي كنت أؤمن بها”.

بعد خروجه من السجن في عام 2003، بدأ نوح يشعر بأن الجماعة قد تغيرت بشكل كبير. التغيرات التي شهدها التنظيم الخاص داخل التنظيم العام، وزيادة النزعة الاستبدادية لدى القيادة، كانت من الأسباب الرئيسية التي جعلته يتخذ قراره النهائي بالخروج. يوضح نوح: “عندما خرجت من السجن، وجدت أن التنظيم الخاص قد سيطر بشكل كامل، وأن استخدام العنف أصبح أكثر قبولاً وتبريراً”.

ويضيف نوح: “اكتشفت أيضاً أن القيادة كانت تسعى لتحقيق أهدافها بأي وسيلة، بما في ذلك التضحية بالأعضاء والتلاعب بهم. كنت أشعر بأنني لم أعد جزءاً من هذا التنظيم، وأنه لا يمكنني البقاء فيه وأنا أرى كل هذه الأمور تحدث من حولي”. كانت هذه الاكتشافات بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ودفعته لاتخاذ القرار الصعب.

تجربة نوح داخل السجن لم تكن فقط فرصة لمراجعة أفكاره، بل كانت أيضاً تجربة شخصية قاسية أثرت عليه بشكل كبير. يقول: “السجن لم يكن سهلاً. كان هناك الكثير من الضغوط النفسية والجسدية، لكنني خرجت منه أقوى وأكثر إصراراً على البحث عن الحقيقة”. هذه التجربة ساعدته على فهم نفسه بشكل أفضل، وأكدت له أن الوقت قد حان للابتعاد عن الإخوان.

تحدث نوح عن أن ترك التنظيم لم يكن مجرد قرار شخصي، بل كان أيضاً قراراً سياسياً واجتماعياً. نوح، الذي كان ناشطاً سياسياً ومحامياً بارزاً، كان يعرف أن خروجه من التنظيم سيؤثر على مسيرته المهنية وعلى علاقاته الاجتماعية. لكنه كان مستعداً لتحمل العواقب. يقول: “كنت أعلم أن ترك التنظيم لن يكون سهلاً، لكنني كنت مستعداً لتحمل المسؤولية والمضي قدماً في حياتي بدونها”.

يصف نوح رد الفعل على قراره بالانسحاب قائلاً: “التنظيم لم تتقبل خروجي بسهولة. حاولوا تشويه سمعتي والضغط علي بطرق مختلفة، لكنني كنت مصمماً على موقفي”. هذا العداء لم يثنيه عن قراره، بل جعله أكثر إصراراً على متابعة طريقه الجديد.

بعد خروجه، بدأ نوح في إعادة بناء حياته المهنية والشخصية بعيداً عن تأثيرات الإخوان. يقول: “بدأت أعمل على تطوير نفسي كمحامٍ وككاتب، وركزت على مساعدة الناس والدفاع عن حقوقهم”. هذه الفترة كانت بمثابة فصل جديد في حياة نوح، حيث بدأ يكتشف نفسه من جديد ويحدد أهدافه وطموحاته بعيداً عن الإخوان.

 

عندما قرر مختار نوح الانسحاب من تنظيم الإخوان المسلمين، لم يكن هذا القرار مجرد خطوة فردية بل كان بداية لمواجهة علنية. تلك المواجهة كانت حافلة بالصعوبات والتحديات، حيث حاول التنظيم بشتى الطرق تشويه سمعته والضغط عليه للعودة عن قراره.

يصف نوح خروجه من التنظيم بأنه كان قراراً نهائياً لا رجعة فيه. يقول: “بعد أن أدركت الحقيقة الكاملة حول التنظيم الخاص واستخدام العنف والأهداف السرية للتنظيم، قررت أن أتركها بشكل نهائي. لم يكن هناك مجال للعودة بعد كل ما رأيته”. هذا القرار كان يتطلب شجاعة كبيرة، خاصة وأنه كان يعرف أن التنظيم لن يتركه وشأنه.

بعد خروجه، بدأ نوح يواجه حملات التشويه والضغط من قبل التنظيم. يقول: “حاول التنظيم تشويه سمعتي واتهامي بالخيانة. كانوا يحاولون بكل الطرق إجباري على التراجع عن قراري”. هذه الحملات لم تقتصر على التشويه الإعلامي فقط، بل شملت أيضاً محاولات للضغط الاقتصادي والاجتماعي. يقول نوح: “تعرضت لضغوط كبيرة في عملي وفي حياتي الشخصية. حاولوا قطع سبل رزقي وإبعاد الناس عني”.

في مواجهة هذه الضغوط، لم يكن لدى نوح خيار سوى المواجهة. يقول: “قررت أن أواجه كل هذه الاتهامات بشجاعة. بدأت أكتب وأتحدث علناً عن تجربتي داخل التنظيم وعن الأسباب التي دفعتني للانسحاب”. هذه الشجاعة في المواجهة كانت بمثابة رسالة قوية للتنظيم وللجمهور على حد سواء. كانت تعبر عن إصراره على موقفه وعدم استعداده للعودة إلى التنظيم بأي ثمن.

بالإضافة إلى المواجهة الإعلامية، بدأ نوح في العمل على بناء حياته المهنية بشكل مستقل. يقول: “بدأت أركز على عملي كمحامٍ وكاتب، وأعمل على تطوير نفسي بعيداً عن تأثيرات التنظيم”. هذه الخطوة كانت ضرورية له لإثبات أنه قادر على النجاح والاستقلال بعيداً عن الإخوان.

ويضيف نوح: “كانت هناك صعوبة كبيرة في البداية، ولكن بمرور الوقت بدأت أجد الدعم من الأصدقاء والزملاء الذين كانوا يعرفونني ويثقون فيّ”. هذا الدعم كان بمثابة دافع إضافي له لمواصلة طريقه والاستمرار في الدفاع عن مبادئه.

بعد خروجه من التنظيم، شرع مختار نوح في رحلة جديدة من الاستقلال الفكري والتجديد الشخصي. كانت هذه الرحلة تتطلب شجاعة كبيرة ومرونة فكرية للتأقلم مع حياة خارج التنظيم الذي شكّل جزءًا كبيرًا من حياته لأكثر من ربع قرن. خلال هذه المرحلة، بدأ نوح في إعادة بناء هويته الفكرية والمهنية.

أولى خطواته كانت في مجال الكتابة والتأليف. يوضح نوح: “بدأت أكتب عن تجربتي وعن الأفكار التي كانت تخطر في بالي. كنت أريد أن أشارك الآخرين بما مررت به، وكيف يمكن للشخص أن يحرر نفسه من الأفكار المتطرفة”. كانت الكتابة بالنسبة له وسيلة للتعبير عن الأفكار والتجارب التي لم يكن بإمكانه مشاركتها من قبل.

واحدة من أبرز الأعمال التي قام بها نوح في هذه الفترة كانت نشر مقالات وكتب تتناول تجربته الشخصية ونقده للأفكار التي كان يتبناها التنظيم. يقول: “نشر كتابي الأول كان بمثابة إعلان عن حريتي الفكرية. كان هناك خوف من رد فعل التنظيم، ولكنني قررت أن أستمر في طريقي”. هذا الكتاب لاقى اهتمامًا كبيرًا من الجمهور وفتح باب الحوار والنقاش حول تجربة الإخوان من الداخل.

لم تقتصر مساعي نوح على الكتابة فقط، بل شملت أيضًا مشاركته في الندوات والمؤتمرات التي تناقش التطرف والفكر الإرهابي. يقول: “شاركت في العديد من الندوات والمؤتمرات التي كانت تناقش قضايا التطرف والفكر الإرهابي. كنت أريد أن أساهم في نشر الوعي وكشف الحقائق عن هذه الجماعات”. هذه المشاركات كانت بمثابة رسالة قوية تؤكد على موقفه الرافض للتطرف وتأكيدًا على دوره كمثقف مستقل يسعى لنشر الوعي والحقيقة.

بالإضافة إلى ذلك، بدأ نوح في تقديم الاستشارات القانونية والاجتماعية للمجتمع. يقول: “بعد ترك التنظيم، قررت أن أستخدم خبرتي القانونية في خدمة المجتمع. بدأت أقدم استشارات قانونية واجتماعية للأفراد الذين يعانون من تأثيرات الجماعات المتطرفة”. هذه الاستشارات كانت تساعد الناس على فهم حقوقهم وكيفية التعامل مع التحديات التي يواجهونها بسبب التطرف.

في نهاية حديثه عن هذه المرحلة، يقول نوح: “الاستقلال الفكري هو أعظم إنجاز يمكن أن يحققه الإنسان. لا يمكن أن تكون حراً إذا كنت تحت تأثير أفكار متطرفة أو تنظيم يسعى للسيطرة عليك. الحرية تأتي من الداخل، وعليك أن تكون شجاعًا بما يكفي لتدافع عن أفكارك ومبادئك”.

مع مرور الزمن، أصبح مختار نوح رمزًا للحرية الفكرية والاستقلال الشخصي. تجربته الطويلة داخل تنظيم الإخوان وخروجه النهائي منه كانت مليئة بالدروس والعبر، والتي يسعى نوح إلى مشاركتها مع الأجيال الجديدة. يهدف نوح من خلال سرد تجربته إلى تحذير الشباب من الوقوع في فخ الجماعات المتطرفة وتشجيعهم على التفكير النقدي والمستقل.

أولى الدروس التي يستخلصها نوح من تجربته هي أهمية التفكير النقدي وعدم الانسياق وراء الأفكار المتطرفة دون تمحيص. يقول نوح: “التفكير النقدي هو السلاح الأقوى ضد التطرف. عليك أن تسأل الأسئلة الصحيحة وتبحث عن الإجابات بنفسك. لا تدع أحدًا يفرض عليك طريقة تفكير معينة”. هذا الدرس ينبع من تجربته الشخصية حيث وجد نفسه مضطرًا لمراجعة أفكاره والانفصال عن الجماعة بعدما أدرك التناقضات العديدة في أفكارهم وممارساتهم.

درس آخر يستخلصه نوح هو ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية وعدم السماح لأي تنظيم بالتلاعب بها. يقول نوح: “الجماعات المتطرفة تحاول دائمًا أن تزرع فيك فكرة أن الولاء للجماعة هو الأهم، وأن الوطنية تأتي في المرتبة الثانية. هذا خطأ كبير. يجب أن يكون ولاؤك الأول لوطنك”. هذا الدرس يعكس تجربته في مواجهة الإخوان الذين كانوا يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة على حساب المصلحة الوطنية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *