
في مطلع رمضان أطل “الساحر” “النجم” “أمير القلوب” “الماجيكو” “القديس” “الخلوق” “صديق الشهداء” محمد أبو تريكة على المصريين، لا عبر شاشات غير مصرية تلقفته واستضافته واحتضنته وتعاقدت معه عقب خروجه من مصر وتوجيه قائمة طويلة إليه من الاتهامات تتعلق بانضمامه إلى “جماعة إرهابية”، هي جماعة الإخوان المسلمين، والتحفظ على أمواله ضمن قرار إدارة وحصر أموال الجماعة، بل وإدراجه على قائمة الإرهاب للسبب نفسه، ألا وهو صلته بالجماعة، أطل أبو تريكة على المصريين عبر إعلان “رسمي” للنادي الأهلي المصري على أرض مصر وعلى الأثير المصري وعلى مرأى ومسمع من “الحكومة”.
الإعلان الذي قضَّ مضاجع المصريين بين فرحة غامرة وصدمة عارمة، ترويجي يهدف إلى جمع الأموال لـ”تخليد أسماء” المتبرعين أو الممولين على جدران استاد النادي، أما الدفع والسداد فعبر تطبيقات وأدوات رسمية معترف بها محلياً، ولمزيد من المعلومات يوجد رقم للخط الساخن يقع ضمن نطاق وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
ظهر “الساحر” “أمير القلوب”، وفي أقوال أخرى “الإخواني إرهابي القلوب”، متوسطاً نجوم النادي العريق، وهو يحمل لافتة مكتوباً عليها بالإنجليزية “اسمك”.
هذا الظهور المباغت فرض نفسه على الأجواء الرمضانية من روحانيات وعبادات، وأيضاً المسلسلات والمشاهدات، بل ونافس على قائمة “الترند” و”الأعلى قراءة” و”الأكثر متابعة” مع أخبار القمة العربية، وهدنة غزة المرتعشة، وأحداث الضفة المشتعلة، وشكاوى رمضان المعتادة جراء الغلاء وجشع التجار.
وجرت العادة منذ عام 2012، عام صعود “الإخوان” إلى حكم مصر، وبشكل أعتى منذ عام 2013، عام إسقاط “الإخوان” من حكم مصر أن ينقسم المصريون إلى أربع جبهات كلما طرحت قضية ذات علاقة بالإسلام السياسي للمناقشة، أو وقع حدث ذو علاقة بشخصية إخوانية، أو حانت ذكرى سياسية أو أمنية (في أقوال أخرى إرهابية) لها علاقة بالجماعة.
الجبهة الأولى: مصريون كارهون الجماعة رافضون الحكم الديني يدينون ما فعلته الجماعة بمصر وأهلها.
والثانية: مصريون محبون للجماعة، متعاطفون مع قياداتها، يحنون إلى دستورها، واقعون في شباك شعارها “الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.
والثالثة: يتداخل فيها ثوريون ويساريون وحقوقيون وناشطون يجدون أنفسهم دائماً وأبداً في خانة مدافعة عن الإخوان، لا حباً فيهم أو دعماً لنسختهم من الإسلام، لكن لإيمانهم، أو هكذا يقولون، بأنهم فصيل سياسي.
والرابعة: جبهة لا تعنيها الجماعة أو غيرها كثيراً، إما لانشغالها بلقمة العيش وتأمين عشاء اليوم وإفطار الغد، أو لأنها “مالهاش في السياسة ووجع الدماغ”.
الجبهات الأربع لم تسلم من “وجع الدماغ” منذ أطل الإعلان على الجميع إطلالة مباغتة. الحرب الكلامية شعواء، وجهود التفسير يغلب عليها إما الاحتقان وإما الانتقام، كيف يظهر على الملأ المصري من قيل على مدى أعوام إنه ضالع في جماعة جرى تصنيفها “إرهابية”؟ وكيف يسمح لمن جرى إدراجه في غير قضية تتعلق بالإرهاب وتمويل جماعة كادت تحول مصر إلى ثيوقراطية طائفية؟ وكيف تجرأت جهة مثل النادي الأهلي على الاستعانة بمن أعلن دعمه للجماعة ومندوبها في الرئاسة محمد مرسي؟ تحولت بعد ساعات قليلة من التأكد من حقيقة الإعلان إلى “لماذا”؟ وما زالت في انتظار إجابة.
إنها أسئلة الجبهة الأولى المعادية للجماعة والمنددة بما فعلت بمصر والمصريين، هذه الجبهة تتداول في ما بينها عشرات الفيديوهات التي توثق انتماءات “الخلوق” ومواقف “الماجيكو” وأنشطة “القديس”. أبرز ما يتداوله المنتمون لهذه الجبهة نتائج التحريات التي أجرتها أجهزة الأمن، التي كشفت عن أن اللاعب كان يمتلك ثلاث شركات، بينها شركة سياحية كانت تنظم رحلات لتركيا، وتسفير عناصر الجماعة إليها، وأن نسبة كبيرة من أموال شركاته كانت تخصص للإنفاق على عناصر الجماعة المحبوسين وأسرهم، وتمويل عمليات الإعاشة في اعتصام رابعة العدوية، ناهيك بتخصيص مبالغ شهرية لعدد من عناصر لجان الجماعة النوعية.
كما يجري تداول واسع النطاق لتدوينة على صفحة ابنة النائب العام الراحل هشام بركات الذي اغتيل في رمضان عام 2015 بسيارة مفخخة، وذلك بعد دقائق من انتشار الإعلان، كتبت: “أنا بنت البطل ابنة النائب العام الشهيد الصائم، ابنة من ضحى بحياته دفاعاً عن الحق والعدالة، عن الوطن الذي روى بدمائه ترابه. واليوم أقولها بكل وضوح، أرفض ظهور أبو تريكة في إعلان يحمل اسم النادي الأهلي، وأرفض أن يقدم كشخصية تمثل أي شيء لمصر”.
وتتساءل “كيف يظهر في إعلان رسمي شخص باع بلده، وساند الجماعات الإرهابية التي اغتالت والدي واغتالت خيرة رجال مصر؟ كيف يفرض علينا أن نراه في صورة البطل بينما كان داعماً لمن استهدف جيشنا وقضاتنا وشرطتنا وأبطالنا الذين ضحوا بحياتهم فداء لهذا الوطن؟ هذا الإعلان ليس مجرد إعلان، بل محاولة لتبييض وجه لن تمحى آثامه من ذاكرة مصر وشعبها. ومصر ورئيسها لا ينسون أبداً من خان، ومن تواطأ، ومن تسبب في استشهاد رجالها الشرفاء. هذه ليست مجرد كرة قدم، وليست مجرد حملة إعلانية! هذه إهانة للأرض”.
يشار إلى أن وزير الداخلية المصري وقت الاغتيال مجدي عبدالغفار قال في مؤتمر صحافي إن “مخطط” اغتيال النائب العام نفذته قيادات إخوانية إرهابية هاربة في تركيا بالتنسيق مع الذراع الأخرى المسلحة لجماعة الإخوان في غزة (حركة حماس) التي اضطلعت بدور كبير في تنفيذ المخطط.
“مخطط” العودة
“مخطط” عودة أبو تريكة، كما أطلق عليه المصريون المتمسكون برفض الجماعة ورموزها، يقابله “فرحة” العودة لدى الجبهتين الثانية المحبة للجماعة والثالثة المحبة لأي فصيل تعتبره سياسياً. تدوينات وتغريدات، بعضها يعبر عن بهجة عامرة، وبعض آخر ينضح بفرحة انتقامية من أعداء الجماعة من جهة، وسعادة جارفة لعودة “القديس” من جهة أخرى مع حضور لافت لتدوينات يغلب عليها الطابع السياسي التحليلي من قبل ثوريين وناشطين وأكاديميين يرحبون بعودة الإخوان إلى الساحة، سواء على هيئة أفراد أو جماعات.
وبين هذه الجبهة وتلك ازدادت حيرة المصريين غير القادرين على فهم ما يجري، وإن كان تصدر أبو تريكة إعلان النادي الأهلي الجديد مؤشراً بمصالحة أو مقايضة أو ما شابه، بخروج الإعلامي الرياضي المشهور ولاعب الأهلي السابق أحمد شوبير معلناً (عبر قناة الأهلي التلفزيونية) إن جماهير الأهلي سعيدة للغاية بمشاركة أبو تريكة في الإعلان، لا سيما أنه (أبو تريكة) يحظى بحب كثير من الجماهير، وفي ظل تاريخه الكبير الذي قدمه مع الأهلي والمنتخب الوطني.
اللافت أن شوبير كان قد وصف في أعوام سابقة رابطة “ألتراس أهلاوي” (مشجعو فريق كرة قدم النادي الأهلي) جماعة إرهابية مثل تنظيم الإخوان، وطالب الحكومة بإعلانها جماعة إرهابية مثلهم.
موقف شوبير أضاف حيرة إلى الالتباس ودهشة إلى الغموض، لكن الالتباس والغموض ليسا وليدي إعلان أبو تريكة، فقبل أشهر، تحديداً نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، استيقظ المصريون على بيان صادر من النيابة العامة قالت فيه إن محكمة الجنايات، بناءً على طلب النيابة العامة، أصدرت قراراً برفع أسماء 716 شخصاً من المدرجين على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، وقالت إن الإجراء (الذي أغضب وأدهش المصريين المعارضين للجماعة وأسعد وأبهج الداعمين لها) جاء “بعد توقف أنشطتهم غير المشروعة ضد الدولة ومؤسساتها”.
يشار إلى أن عدد المدرجين على قوائم الإرهاب عام 2023 بلغ 1526 شخصاً، وكانت محكمة النقض المصرية قد ألغت في مايو (أيار) عام 2024 قراراً قضائياً كان يقضي بإدراج محمد أبو تريكة على قوائم الإرهاب.
مثل هذه القرارات كانت تدفع المصريين الرافضين الجماعة ورموزها وأنشطتها، ممن يظلون متذكرين مستحضرين مشاهد اغتيال ضباط شرطة وجيش ومواطنين عاديين على مدى الأعوام التي تلت إسقاط حكم الجماعة، التي اتهم فيها رسمياً أفراد ضالعون في جماعة الإخوان المسلمين أو أذرعتها، سواء في مصر أو خارجها، للدهشة تارة، والغضب تارة أخرى، والتساؤل دائماً عن مغزى أو معنى ما يجري.
هذا الفريق من المصريين يتابع التصريحات، التي تبرر أو تشرح مثل هذه الخطوات في ضوء “تنقية المناخ الحقوقي” أو “تنقيح الملف السياسي” أو “التفاعل مع مبادئ الحوار الوطني” أو “الإرادة السياسية لإحداث تغيير في قضايا الحريات” أو غيرها، باعتبارها شروحاً غير كافية أو تعليلات غير مقنعة.
“أبو تريكة” قفز إلى رأس ترند “إكس” في مصر، جنباً إلى جنب مع “أبو تريكة الإرهابي”، ثم قفز وسم “النادي الإخواني” (في إشارة إلى النادي الأهلي) إلى رأس القائمة بعد دقائق.
يشار إلى أن تقارير إعلامية، وملاسنات شعبية عديدة دأبت على الإشارة إلى اختراق جماعة الإخوان المسلمين النادي الأهلي عبر رموز كثيرة محسوبين أو منتمين أو متعاطفين مع الجماعة. على سبيل المثال لا الحصر، عام 2013 كتب الصحافي عادل السنهوري تحت عنوان “من ينقذ النادي الأهلي من الإخوان؟”، “كيف تحول النادي الأهلي إلى وكر للإخوان، وكيف أصبح النادي صاحب الشعبية الضخمة في مصر والوطن العربي إلى ما يشبه مقراً لمكتب الإرشاد الرياضي؟ ولماذا وقع اختيار الإخوان تحديداً على الأهلي لاختراقه وتشكيل القواعد والخلايا الإخوانية النائمة استعداداً للحظة الانقضاض على السلطة والجهر بالأخونة داخل النادي العريق؟”، كما دأب القانوني والباحث ثروت الخرباوي على تأكيد اتهام رموز من النادي الأهلي بالانتماء والولاء الكاملين للجماعة.
في المقابل فإن تغطيات صحافية وتلفزيونية أخرى، لا سيما تلك التي يكتبها أو ينجزها صحافيون شباب، لا سيما من مشجعي الأهلي، ومحبي أبو تريكة تتحاشى تماماً أي خلط بين النادي والجماعة، وتمعن في إضفاء كثير من نعوت التكريم والتبجيل والتمجيد للاعب “الخلوق”، ليس هذا فحسب، بل منهم من يمعن في “مجاملة” “القديس” على حساب اللاعب المصري الدولي محمد صلاح.
تجدر الإشارة إلى أن المدافعين عن أبو تريكة ومعهم المتعاطفون مع الإخوان يحرصون على توجيه الانتقادات إلى محمد صلاح لأنه لم يرتدِ قميصاً داعماً لغزة، أو يحمل علماً غير العلم المصري، أو يزج بالسياسة في الكرة، أو يطالب بريطانيا، حيث يقيم، بدعم القضية الفلسطينية وتحرير غزة.
ويذكر أن أبو تريكة حاز شعبية جارفة عام 2008 حين رفع قميصه أثناء مباراة المنتخب المصري أمام نظيره السوداني في كأس الأمم الأفريقية عام 2008، ليكشف عن قميص أبيض مكتوب عليه بالأسود بالبنط العريض “تعاطفاً مع غزة”، وذلك في أثناء معاناة أهل القطاع جراء العدوان الإسرائيلي في ذلك العام.
تعاطف أبو تريكة مع غزة وأهلها متكرر، وعلى رغم التعاطف المصري الجارف، بغض النظر عن موقف المتعاطفين من جماعة الإخوان المسلمين، فإن ثالوث “’حماس‘ والإخوان وغزة” يدفع بعضهم إلى التشكك في انتماءات أبو تريكة.
قبل ساعات من خروج إعلان تريكة مع النادي الأهلي إلى النور، انتشر فيديو له يوجه رسالة للفلسطينيين لمناسبة شهر رمضان، ويصف فيها أهل غزة بـ”أفضل بشر على كوكب الأرض”، داعياً لهم بالصبر والرضا والثبات والنصر. الفيديو أعاد الجدلية الحائرة، والمعضلة المعرضة لكل من يتشكك فيها للاتهام بالتهاون والتخاذل ومعاداة الدين ومحاربة حق الفلسطينيين في التحرر، ألا وهي الفصل بين “حماس” كحركة ولدت من رحم جماعة الإخوان، وإن أعلنت انفصالها عنها لأسباب يصفها بعض المتابعين باللوجيستية أو السياسية أو التكتيكية عام 2017، وبين غزة وأهلها ومعاناتهم الرهيبة المتكررة.
صحيح أن التخوف من التعرض للاتهام سابق التعليب، بأن معارضي جماعة الإخوان المسلمين ومنتقدي حركة “حماس” هم بالضرورة إما “متصهينون” أو “داعمون لإسرائيل” أو “متغافلون عن حق الشعب الفلسطيني” يمنع كثراً من التعبير عن آرائهم في هذا الشأن.
غير أن اقتراب شبح عودة الإخوان، سواء بطريق مباشر من خلال تصالح الدولة معهم واعتبارهم فصيلاً سياسياً، أو غير مباشر عبر عودة رموز أو قبول أفكار أو التسامح مع من سبق ووجهت إليهم اتهامات بالقتل أو التخطيط لقتل أو التشفي في قتل ضباط ومواطنين يدفع بعض المصريين إلى المجاهرة بالتحذير أو رفض “الثالوث”.
في المقابل يظل هناك كثر إما مرحبون بعودة الجماعة، سواء من باب المصالحة أو من نافذة أبو تريكة ورفع أسماء الرموز من على قوائم الإرهاب أو إعادة فتح محالهم وجمعياتهم ومدارسهم ومستوصفاتهم، وإما غير مكترثين لعودتهم تحت وطأة أوجاع الاقتصاد وآلام تأمين لقمة العيش.
وبينما تتواتر النظريات الشعبية المرجحة بأن تكون مثل هذه التحركات، ظهور أبو تريكة في إعلان رسمي، أو رفع رموز الجماعة من قوائم الإرهاب، أو التوقف عن ذكر اسم “حركة حماس” مقترنة بالجماعة أو مستحضرة مواقفها الداعمة محمد مرسي والمنددة بإسقاط الإخوان عبر تظاهرات شعبية حاشدة، أو التحديث عن مصالحة بمثابة عمليات جس نبض أو إلهاء أو مجرد تحركات سياسية لا بد منها، تبدو مثل هذه الإطلالات مدروسة، وعلى الأرجح متكررة.
في تلك الأثناء، وعلى رغم خفوت حدة أو صوت الحديث عما يحمله صعود جماعة إسلام سياسي إلى سدة الحكم في سوريا، ونيلها تأييداً ومباركة وتعضيداً عالمياً غير مسبوق مع غفران أو تناسٍ أو تسامح، أو كل ما سبق عن تاريخها المرتبط بتنظيم “القاعدة” وكذلك “داعش”، فإن بعض المصريين ما زال يتخوف من إطلالة إخوانية أكثر جرأة أو حدة استناداً إلى هذا “النجاح للإسلام السياسي المتشدد” في سوريا.
في الوقت نفسه أعاد بعض المصريين نشر الصورة التي أثارت كثيراً من الجدل قبل أسابيع قليلة، التي تظهر الرئيس السوري أحمد الشرع وإلى جانبه القيادي الإخواني محمود فتحي، والصادر في حقه حكم غيابي بالإعدام، في قضية اغتيال النائب العام السابق هشام بركات.
وبين “إذا كانت الدولة متسامحة مع الإخوان، فنحن لسنا متسامحين” و”الإخوان فصيل سياسي وناس بتوع ربنا” و”عفا الله عما سلف”، تدور دوائر المصريين الحائرة في محاولات إما للفهم أو الرفض أو التأييد.
امينة خيري: انديبندت عربية