تاريخ الأقباط 1: أنقسام الاقباط مابين بطريرك روماني وآخر أرثوذكسي

حلقات يكتبها وجيه فلبرماير من كتاب المؤرخة الانجليزية أ. ل. بيتشر

وقامت المؤرخة الإنجليزية أ. ل. بتشر بجمع مادة هذا التاريخ بطرق مختلفة خاصة الفترة مابين 640-884 حسب التقويم الميلادي و18- 270 حسب التقويم الهجري ونشرته في مجلد خاص متاح باللغة الإنجليزية خارج مصر ، بينما النسخة المترجمة باللغة العربية عام 1897 يتم تداولها سراً

وقامت مسز بتشر أيضاً بكتابة التاريخ الكامل للأقباط منذ دخول المسيحية لمصر وامتزاج شعب مصر بأمم كثيرة من أروام ورومان وعرب وأكراد وشراكسة وأتراك وسجلت كل ذلك في مجلدين تم ترجمتهما للعربية ويسمح بنشر المجلد الأول الذي سبق الفتح الإسلامي ، ولكن يتم تداول المجلد الثاني في نطاق ضيق وبشكل سري وهو ذلك المجلد الذي تنشره يورو عرب برس على حلقات والتي تبدأ بشرح أحوال مصر مباشرة قبل دخول الإسلام إليها

الفتح الفارسي سنة 603 الميلادية

بينما كان قضيب السلطة الرومانية في مصر ينتفض ويرتجف حتى يكاد ينقصف كأن المصريون يزدادون قوة ومنعة على توالي الأيام ، وقد جلس على السدة البطريركية بعد دميان البطريرك أناسطاسيوس سنة 603 م. وكان رجلاً عالي الهمة قوي العزيمة فلم ترض نفسه الشماء القعود في دير وادي النطرون بل جاء الإسكندرية وخطر الموت يحدق به ورسم قسوساً وأساقفة ثم طاف جائلاً في الأرياف يفتقد رعيته ويواسيها. وقد بني كنيسة كبرى في الإسكندرية تضارع الكنيسة الإمبراطورية وكرسها باسم ميخائيل رئيس الملائكة

وفي هذه السنة فاض النيل بغزارة في إحدى الليالي حتى ارتفع على بلدة إسنا بمديرية قنا فغمر منازلها وأغرق كثيرين من سكانها وفي هذا الزمن حدث انشقاق وانقسام في المملكة الرومانية وقام هرقل الأكبر والي أفريقيا ضد فوكاس إمبراطور القسطنطينية يريد التهام مصر منه وهي اللقمة الدسمة السمينة التي سعت أمم العالم من زمان قديم لازدرادها ولكن عسر هضمها على جميع الأمم. فلما وجد المصريون عدواً يناصب فوكاس العداء، انضموا إليه بكليتهم وسار عدد كبير منهم مع الجيش الذي سيره هرقل لفتح الإسكندرية وكان مؤلفاً من ثلاثة ألاف مقاتل من الجنود الرومانية تحت قيادة قائد أسمه بوناكيس ضم إليه حامية مريوط لأن واليها خاف شر الحرب وسار مع هؤلاء المغتصبين ضد رغبته ورغبة مولاه الإمبراطور دون أن يبدي أدنى مقاومة

فلما عسكر جيش بوناكيس خارج أسوار الإسكندرية برز لهم واليها في نفر من الجند قليل العدد يريد رد هجماتهم ولكن بوناكيس طلب منه الانسحاب من المعمة والقعود في مكانه بدون عراك وهو يشترط له في مقابل ذلك حفظ حياته من القتل. إلا أن والي الإسكندرية أبى السكوت وشن غارة على المغيرين ولم يقف طويلاً في ساحة القتال لأن جيشه هزم ووقع هو أسيراً فقطعت رأسه وعلقت على أسوار الإسكندرية لكي يعتبر بها من يتنطح لأمر فوق طوقه. فلما رأي تاودروس البطريرك الروماني ذلك علم أن الخطر محيط به فلجأ إلى الكنيسة الرومانية لأنه لم يجد له نصيراً في الإسكندرية مادام جميع سكانها رحبوا بهرقل وجنوده ، كما أن أهالي نيقية (ابشادي بمركز منوف) ساروا بأجمعهم تحت رئاسة أسقفهم للقاء بوناكيس والاعتراف بحكم هرقل عليهم

وقد نسج أكثر المصريين في المدن الأخرى على منوالهم ماعدا صاحبنا قزمان الذي أخمد نيران ثورة الأخوة الثلاثة فإنه إنحاز مع بولس والي سمنود ومركيانوس والي بنها وبعض الموظفين الرومانيين إلى جانب الإمبراطور فوكاس ، وانضمت إليهم أيضاً عقيلة ذات نفوذ وهيبة اسمها كرستودورا واتفق هذا الحزب الضئيل القليل على مقاومة أعداء فوكاس بكل قوة خصوصاً لأنهم سمعوا أن قائد اسمه يونوز جاء من عند فوكاس بجيش جرار وصار على مقربة من الإسكندرية

ولذلك انقسم الوطنيون إلى قسمين ، قسم انحاز على هرقل تحت رئاسة البطريرك الروماني تاودروس وأفلاطون وتاودروس أسقف أشادي ومينا وكيل الأسقفية. والقسم الوطني الثاني المعضد لفوكاس كان تحت زعامة قزمان وبولس وكرستودورا، وكلا الحزبين وقفا ضد بعضهما في مركز منوف ولكنهما لم يتحاربا بل انتظرا مجي القائدين الرومانيين اللذين وفدا في ذلك اليوم فعسكر بونوز ظهير فوكاس في بنها وتقدم بوناكيس نصير هرقل من ابشادي ليلتحق بنصرائه من الوطنيين وحينئذ اشتبك الجيشان في معركة شعواء شرقي بلدة منوف ، عقد بها النصر لواء بونوز وقتل بونا كيس وفر أفلاطون والبطريرك تاودروس إلى دير عند اتريس وإختبأ فيه .

أما تاودروس أسقف ابشادي ووكيله مينا لجئا إلى خيمة بونوز وبيدهما الكتاب المقدس يحتميان به ويطلبان باسمه رحمة وصفحاً فمن عليهما بونوز ومال للعفو عنهما ولكن مركانيوس وكرستودورا صمما على قتلهما وأفعما قلبه بكل أنواع الحقد ضدهما بقولهما أن هذا الأسقف أمر بتكسير التمثال الذي كان ممثلاُ فوكاس في ابشادي وأنه أول من حرض على مقاومة الإمبراطور وحزبه فهو يستحق الموت، وعليه قطعت رأس هذا الأسقف المسكين في بلدته ووضع مينا تحت طائلة السياط والجلد إلى أن دفع ثلاثة ألاف قطعة من الذهب فدية ولكنه مات بعد يومين من ألم الضرب

وعندما سمع سكان البلاد المجاورة هذه الأخبار استولى عليهم الرعب والقلق خصوصاً رهبان اتريس الذين ساروا سير الجبناء الأنذال وسلموا إلى بونوز جميع مواطنيهم الذين إلتجأوا لديهم فوضعوا السلاسل والأغلال في رقاب أفلاطون والبطريرك تاودروس وكثير من وجهاء منوف وأعيانها وثلاثة من أرباب المظاهر والحيثيات من الأقباط وساقوهم إلى بونوز في ابشادي حيث جلدهم بالسياط والمقارع جلد أهرى جلودهم ثم قطع رؤوسهم في المكان الذي لاقي فيه اسقف ابشادي حليفه

وما كان النصر الذي أحرزه الإمبراطور فوكاس وأنصاره سوى سحابة صيف إنقشعت وزالت وهب وجهاء المصريين وجماعة الرومانيين المستوطنين في مصر والكنيسة القبطية عن بكرة أبيها للأخذ بناصر هرقل وتعضيده ثم وفد على الإسكندرية قائد مدرب اسمه نسطاس من قبل هرقل ومعه جيش زاخر فافتتح فتوحاته في سمنود ولم يقف واليها طويلاً في وجه هذا الجيش الجرار

وكان على مقربة من سمنود راهب اسمه ثوفيلس عرف بالتقوى والقداسة ظل أربعين سنة قاعداً فوق قمة عمود دون أن يطأ الأرض بقدميه قصده نسطاس يستشيره في مصير هذه الحرب ويستمد منه المساعدة لأن الرجل كان نافذ القول مسموع الكلمة بين الأقباط ، فقال له ثوفيلس أن الغلبة ستكون له وأن هرقل سوف يصعد على كرسى المملكة بدون ريب ولا جدال ، واعتماداً على هذا التنبؤ سار نسطاس نحو الإسكندرية وأقام حرب العوان على بونوز فهزمه وجعله يفر على أبشادي وضم تحت رايته كل الحزب الروماني في مصر

ومعلوم أن الضعيف يعمد إلى الحيلة والخديعة في جميع أموره ولذلك لما ضاعت القوة من يد بونوز ارسل عسكريا إلى نسطاس بدوى إعلانه بالخضوع له وأوصى هذا العسكري أن يأخذ نسطاس غيلة ويقتله بخنجره ولكنه لم ينجح لأن أحد رجاله أخطر نسطاس بهذه الدسيسة فقبض على الرسول وقتله بخنجره الذي حمله لإغتيال نسطاس ، وبعد مصادمات وحروب عنيفة ذل أتباع فوكاس وتشتت شملهم وقتل بونوز وتاودروس البطريرك الروماني وأسر بولس والي سمنود وقزمان ولكنهما عوملا بالرفق واللين

ولما أستتب الأمر حول أنسطاس نظره إلى إجراء النظام والعدل في مصر لأن الارتباك كان لدعم نواحيها وقام جماعة من المصريين يقصدون نهب الرومانيين وسلبهم في أثناء هذا التخبط والثورات. لذلك اضطر الكثيرون منهم إلى مهاجرة مصر بالمرة وغيرهم ترك الديانة المسيحية وعاد للوثنية وقد أستعمل نسطاس القسوة تارة والرحمة طوراً لتسكين الخواطر الثائرة وكان من حسن أعماله أنه أفى مصر من كل الجزية لمدة ثلاث سنوات استراحت فيها برهة لم تكن إلا كطرفة عين وانتباهها

ولأن الزمان هو أبو العجائب أبى على مصر أم الغرائب أن تتمتع بالسلام والسكينة إلا بقدر ما يرى الشقي السجين ضوء الشمس بعينيه ثم يعود إلى حجرته المظلمة ، فإنه بعد مضى أربع سنوات على هذه الفترة أفتتح جيش كسري ملك الفرس بلاد الشام ووصل إلى حدود مصر يتهددها ويتوعد ، وكان كثيرين من مسيحي سوريا قد فروا إلى مصر ملتجئين إليها من ظلم الفرس وقسوتهم ، وتسابق البطريرك الروماني يوحنا الذي يعنه هرقل والبطريرك المصري أنا سطاسيوس في إكرام جيرانهم المسيحيين اللاجئين إليهم وعملا ما في وسعهم لتخفيف ويلاتهم وتنفيث كروبهم

ولا ريب ان يوحنا البطريرك الإمبراطوري كان أوسع ثروة ومالاً من زميله المصري لأنه كان واضعاً يده على إيراد الكنائس القبطية ودخله كله ، ولم يكن لدي الأقباط من المال سوى ما يجمعونه من المحسنين لسد احتياجات بطريركهم والإكليروس . أما البطريرك يوحنا كان عنده يوم تعيينه أربعة ألاف رطل من الذهب الأصفر والأحمر مكومة ومكدسة في خزائن كنيسته ، عدا الإيراد السنوي الوافر والمبالغ الباهظة التي جاد بها المتبرعون لإعانة الجالية السورية اللاجئين لمصر

وكان بين الذين قعدوا في مصر في ذلك الوقت البطريرك الأنطاكي الذي استقبله اناسطاسويس البطريرك السكندري استقبالاً حافلاً وهش في وجهه وبش وأكرم وفادته كثيراً مع أنه كان في ظروف حرجة ضيقة لأن النيل كان واطيئاً ولم يبلغ إرتفاعه المعتاد

وقد أظهر البطريرك يوحنا سخاء زائداً وكرماً مدهشاً يدل على احساس حساس وقلب رقيق لطيف فوزع جميع أمواله بدون شئ من الحرص والحزم حتى دعوه بعد موته بالقديس يوحنا المحسن ، فأنشأ مستشفيات للمرضى وملاجئ للبائسين والعجزة فضلاً عن انه كان يوزع الصدقات الكثيرة يومياً على ال1ين يفدون لداره ويمد الجائعين أسمطة الأطعمية وموائد المآكل فيأكلون ويسدون رمق جوع شديد. وكثيراً ما كان وكلاء هذا المحسن يجتهدون في كف كفة عن هذا البذل والجود بدعوى أن أغلب المتسولين يلبسون حلياً من الذهب والحجارة الكريمة وهؤلاء لا يصح الإحسان إليهم لأنهم يمكنهم بيع هذا الحلي والاقتيات بثمنها فكان يوحنا يوبخ الوكلاء على قساوة قلوبهم وضعف إيمانهم وهو يقول لو أجتمع على بابه جميع أهالي العالم بأسره فهو يمكنه إطعامهم وإمدادهم بما يحتاجون بنعمة الله وجوده الغير المتناهي

وكان نتيجة هذا السخاء المفرط أن المال فرغ من خزائن يوحنا قبل أن يفرغ من الأعمال الضرورية فوقع في ضيق شديد ولم يجد له مخرجاً من هذا العسر المالي وحدث أن ثرياً مشهوراً من الإسكندرية وعد يحونا بإعطائه مقدار وافرا من الحنطة و 180 رطلاً من الذهب على شرط أن يعينه يوحنا شماساً وكان هذه الوظيفة الخطوة الأولى للوصول لرتبة البطريركية ، وكان عسيراً على يوحنا مخالفة النظم والقوانين الكنيسة لأن هذا الغني كان قد تزوج مرتين ففقد بذلك أول شرط من شروط الكهنوتية ، وهو أن يكون الشماء قد تزوج مرة واحدة فقط ن أي لم تمت إمرأته الأولى ويقتر بأخرى ، فوقع هذا البطريرك في حيرة لأنه كان في أشد الإحتياج لهذا المبلغ الوافر ولكنه رد على المحسن المشترط بقوله أنه لا يستطيع انكار فائدة هذه الهبة الكبرى التي تفيد الكثيرين وتنفعهم ولكنها حيث هي مبنية على غاية ذات أساس فاسد لا ينبغي التردد في رفضها وعدم الندم على ردها لواهبها

ثم خاطبه قائلاً ان الله الذي أعال هؤلاء المساكين كل السنين السابقة قبل أن يعرفونا قادر أن يقوتهم فيما بقي لهم من الأيام وان ذاك الذي بارك في الخمسة أرغفة فأشبعت عدداً عديداً من الناس هو وحده قادر أن يبارك في كيلتي الحنطة الباقيتين في مخازني ، فلما سمع هذا الوجيه كلام يوحنا المؤثر أسقط في يده ومضى حزيناً يتعثر بأذيال الخيبة والفشل ولم يكد يخرج من أمامه حتى دخل رسول يقول ليوحنا أن سفينتين من السفن الخاصة بالكنيسة عادتا من جزيرة سيسليا بالقرب من إيطاليا مشحونتين بالغلال شحناً كاملاً ، فللحال جثا هذا البطريك على ركبتيه وشكر الله كثيراً على نعائمه وفيض بركاته ولأنه أغناه لم يسمح له ببيع المواهب الروحية بذهب أو فضة

ومع ما اشتهر به يوحنا من الفضائل الذكية فلم تكن عنده الشجاعة المسيحية التي تقود أمثاله إلى الموت استشهاداً في سبيل الإيمان. فإنه بعد ما أنقضت فترة السلام هذه وكان الفرس قد وطدوا أقدامهم في سوريا ساروا نحو مصر فقابلهم المصريون بصدر رحيب لأنهم كانوا يسعون بجميع الوسائل الفعالة للخلاص من جور الرومانيين وتسلطهم وحكمهم تحكم الظالمين الغاشمين

أما نسطاس القائد الروماني الذي انتصر قبلاً على شراذم المصريين الجاهلين بالحركات العسكرية فلم يبد حراكاً ضد الفرس لأنه اعتبر أن مقاومتهم والوقوف في وجههم ضرب من الهوس والجنون فاتفق مع البطريرك الإمبراطوري يوحنا على الفرار من الإسكندرية التي احتلها الفرس سنة 630 وخضعت لهم كل أرض مصر خضوعاً تاماً من الإسكندرية شمالاً حتى بلاد الحبشة جنوباً حتى صارت مصر إقليماً فارسياً

وكان الإمبراطور هرقل مشغول عنها فلم يحرك ساكناً لإستراد مصر من أيديهم ولا هو عين بطريركاً لكنيسة الأروام فيها مع أن يوحنا مات في السنة التي فيها فر هارباً وقد عد هروبه هذا جبناً وضعفاً ن وبعد وفاة يوحنا بسنة تنيح البطريرك المصري اندرونيكوس فأصبحت الكنيستان المصرية والرومانية بلا رئيس مدة على أن شرع الأقباط في انتخاب بطريرك لهم فتنبه رهط الأروام كأنه كان نائماً ، وعلة هذا الإنتباه أن الأروام عرفوا أنهم إذا ظلوا بلا بطريرك فلاريب في أن البطريرك القبطي الذي يعين يضع يده على إيراد الكنائس الوافر وهم لا يستطيعون المقاومة لأنهم بدون عضد فلم ينتظروا أمر الإمبراطور بل وقع اختيارهم على بطريرك اسمه جرجس لا يعرف عنه شيء يستحق للذكر سوى أنه خدم جماعته كما خدمهم أسلافه

بينما اختار الأقباط بنيامين بطريركاً لهم وهو من عائلة أشتهرت بالثروة الكثيرة والنفوذ الواسع مما ساعد هذا البطريرك في أعماله التالية ، وكان راهباً في أحد الأديرة حيث غرف بالزهد الكثير والميل إلى الصلاة والعبادة وقبل انتخابه ببضع سنوات جاء الإسكندرية وأقام فيها مدة مع سلفه البطريرك أندرونيكوس إلي أن أختاره الأقباط بطريرك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *