الخلافات الفرنسية الألمانية تهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي

تتعرض هندسة الاتحاد الأوروبي الجيوسياسية لتحديات خطرة بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. فالعقوبات الغربية وحرب الطاقة، مست بشكل مباشر الحياة اليومية للأوروبيين، ورغم أن هذه الحرب مكنت من عودة الروح لحلف الناتو، عبر الدعم العسكري لأوكرانيا وبلورة نوع من الموقف الموحد بضغط أميركي.

 لكن تداعيات الحرب وغياب أفق لنهايتها يطرح سؤالاً حول قدرة الأوروبيين على الحفاظ على موقف موحد أمام الفوضى الاقتصادية وانفجار نسبة التضخم وغلاء المعيشة، وتضارب المصالح بين الدول الأوروبية، والتظاهرات التي بدأت تجتاح عواصم ومدن فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وفي قلب هذه الفوضى المنظمة تتفجر الخلافات الألمانية الفرنسية التي برزت بقوة خلال قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل في 19 تشرين الأول الماضي، إذ قال الرئيس إيمانويل ماكرون للصحفيين إن برلين تخاطر «بعزل نفسها» في أوروبا.

وتتابعت الخلافات بين البلدين بشأن إستراتيجية وآليات مواجهة التضخم وضبط أسعار الطاقة والسياسة الأمنية ومشاريع التسلح، إضافة إلى الطاقة النووية. وبهذا الصدد كتبت صحيفة «تاجز شبيجل»: «لا شيء يعمل بين برلين وباريس كما يرام، فقبيل القمة الأوروبية، ظهرت خلافات عميقة بين فرنسا وألمانيا».

جاءت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى باريس في 26 اكتوبر الماضي، لتلقي الضوء على الخلافات العميقة بين ألمانيا وفرنسا التي يراها خبراء، مؤشراً قد يهدد تماسك الاتحاد الأوروبي رغم الاجتماع المطول واللغة الدبلوماسية التي تحدثا بها، فإن الخلافات بين بلديهما عميقة وأبقت التوترات من دون حل، بدليل تأجيل اجتماع المجلس الوزاري الفرنسي – الألماني واجتماع القمة الأوروبية إلى بداية عام 2023، فثمة تعارض للمصالح بين فرنسا وألمانيا في عدد من الملفات منها:

في مجال الطاقة: يتمحور الخلاف حول ثلاثة أمور، أولها معارضة ألمانيا لتحديد سقف لأسعار الغاز خوفاً من نقص الإمدادات، على عكس معظم دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمها فرنسا.

الأمر الثاني يرتبط بإعلان الحكومة الألمانية، في تشرين الأول الماضي، خطة لإنفاق ما لا يقل عن 200 مليار يورو لدعم أسعار الغاز بعد العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو، وهو ما اعتبرته دول التكتل الأوروبي، وعلى رأسها فرنسا، أنه سيؤثر على المنافسة، لأن بقية الدول لا يمكنها إطلاق برنامج بهذا الحجم، متهمين ألمانيا بأنها تسلك «مساراً منفرداً» في أزمة الطاقة.

الأمر الثالث يتعلق بإعلان فرنسا تعزيز التعاون مع البرتغال وإسبانيا لبناء خط جديد لنقل الهيدروجين.

فرنسا وعلى عكس ألمانيا تطالب بالطاقة النووية، بالمقابل الحرب الأوكرانية دفعت ألمانيا إلى تغيير عقيدتها الدفاعية، فأعدت خطة تسليح عملاقة هي الأكبر في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية.

تعهدت برلين بإنفاق 2 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي كميزانية دفاع، وتم إنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني.

وقعت ألمانيا على هامش مؤتمر حلف الناتو الأخير مع 14 دولة أوروبية أخرى، من دون فرنسا، على مشروع مشترك للدفاع الجوي أطلق عليه اسم «مبادرة درع السماء»، الذي يعتمد على أنظمة أميركية وإسرائيلية، علما أن فرنسا تعمل مع إيطاليا على تطوير مشروع مظلة مضادة للصواريخ باسم «مامبا»، كما تتباين المقاربتان الفرنسية والألمانية فيما يتعلق بتطوير الأمن الأوروبي وسياسة الدفاع الأوروبية المشتركة؛ فتريد برلين الاعتماد على الولايات المتحدة في تطوير أنظمتها الدفاعية، فيما تسعى باريس لتعزيز الاستقلال الأوروبي عن أميركا في هذا المجال، كما عمل الاتحاد الأوروبي، وبضغط أميركي، على فرض عقوبات قاسية على موسكو.

إن التحدي الأكبر سيكون ضمان إبقاء روح التضامن هذه على المدى المتوسط والبعيد مع تراكم الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الحرب، ما سيشكل اختباراً حقيقياً وخاصة لألمانيا وفرنسا، وبهذا الصدد كتبت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية في 28 تشرين الأول الماضي معلقة: «إن السؤال الذي يدور في رؤوس الجميع من دون البوح به هو: إلى متى سيحافظ الأميركيون والأوروبيون على مستوى المساعدة الحالية للأوكرانيين»؟

أمام نسبة التضخم والركود الاقتصادي وتكاليف الطاقة والاستحقاقات الانتخابية والتعب والأنانية، كلها عوامل قد ترخي بظلالها على الجبهة الغربية الموحدة.

لا شك أن التوترات الفرنسية– الألمانية ليست مدفوعة فقط باختلافات في وجهات النظر، بل أيضاً بالمنافسة وإغراءات القيادة داخل الاتحاد الأوروبي وخاصةً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد والفراغ الكبير الذي تسعى كل من فرنسا وألمانيا إلى سده، ويبدو أن ألمانيا تريد وضع مكانتها كمتزعمة لأوروبا.

الخلافات الفرنسية – الألمانية زادت حدة بشكل ملحوظ في إطار تداعيات الحرب الأوكرانية المستمرة على خلفية أزمة الطاقة، الأمر الذي يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي بات على كف عفريت مع إمكانية انهيار جدار الاتحاد الأوروبي وتفككه، ومع استمرار التناقضات بين باريس وبرلين تبرز أسئلة بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي كتكتل سياسي واقتصادي.

ويبقى السؤال: هل ستكون الخلافات بين ألمانيا وفرنسا مقدمة لسقوط الاتحاد الأوروبي وتفككه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *