كيف تسبب سورس 1992 في إفلاس البنك المركزي البريطاني (2-4)

في عام 1992، كانت بريطانيا قد التحقت بما سُمي وقتها “آلية سعر الصرف الأوروبية”، والتي بدأت في عام 1979، حيث تقوم الدول الأوروبية بتحديد سعر صرف عملاتها أمام بعضها البعض بدلاً من التعويم الكامل.ومع حقيقة أن ألمانيا كانت -ولاتزال بالطبع– تمتلك أقوى اقتصاد في أوروبا، فإن كل الدول في القارة العجوز ملزمة بتحديد قيمة عملتها إلى المارك الألماني، مع السماح بهامش بين العملات والمارك لا يتجاوز 6% صعوداً أو هبوطاً.

ومع حلول عام 1992، شهدت بريطانيا أزمة اقتصادية قوية متأثرة بالركود العالمي آنذاك، ليرتفع معدل التضخم إلى 12.7% من مستوى أقل من 8% قبل عامين فحسب.ورغم ما تشير إليه مبادئ الاقتصاد من ضرورة خفض معدل الفائدة لتحفيز الإنفاق والاستثمار، فإن بنك إنجلترا لم يكن قادراً على اتخاذ هذه الخطوة؛ لأنها قد تقلص من قيمة الإسترليني لأقل من المستوى المتفق عليه في الآلية الأوروبية.

لاحظ “سورس” هذه التطورات الاقتصادية الصعبة، مع اعتقاده بأن الجنيه الإسترليني مقوم بأكثر من قيمته الحقيقية في “آلية سعر الصرف الأوروبية”.

لـ”جورج سورس” عبارة شهيرة يقول فيها: “لا فائدة من أن تكون واثقاً وتمتلك مركزاً مالياً صغيراً”، ويقصد بها أن المستثمر ما دام واثقاً من خياره فعليه زيادة مركزه في هذا الاستثمار والرهان بكل قوته على ما يؤمن به. ومع ثقة “سورس” في رؤيته، قرر الرهان بقوة على هبوط الجنيه الإسترليني، فكون مركزاً مالياً عبر صندوقه الاستثماري بقيمة 1.5 مليار دولار للرهان بأن قيمة العملة البريطانية سوف تتراجع.

ورغم تمسك بريطانيا بسياسة سعر الصرف المطبقة، فإن “سورس” قرر زيادة مركزه المالي للرهان ضد الجنيه الإسترليني إلى 10 مليارات دولار، ليتبعه عدد من صناديق التحوط الأخرى التي بدأت في الاقتراض وبيع الجنيه الإسترليني. ومع نهاية تعاملات هذا اليوم، كان الإسترليني قد تعرض لخسائر حادة وهبط بنهاية التعاملات أدنى السعر المتفق عليه في “آلية الصرف الأوروبية”.

وقرر بنك إنجلترا الدفاع عن العملة عبر شراء عدة مليارات من الإسترليني، لكن بدون فائدة، قبل أن يتجه البنك لزيادة معدل الفائدة مرتين في نفس اليوم لدفع المستثمرين لشراء العملة بأنفسهم طمعاً في العائد المرتفع، لكن هذه الوسيلة لم تجد نفعاً أيضا.

وأدى فشل كل وسائل البنك المركزي لوقف عمليات البيع الهائلة للإسترليني إلى توقع السوق عملية خفض لقيمة العملة البريطانية، وهو ما صعب الأمر أكثر بالنسبة لبنك إنجلترا. وبالفعل.. خرج وزير المالية “نورمان لامونت” في مؤتمر صحفي ليعلن تعليق عضوية بلاده في “آلية سعر الصرف الأوروبية”، وإلغاء عملية رفع الفائدة، والعودة لنظام السعر الحر للعملة.

وفي 17 سبتمبر 1992 أو بما يُطلق عليه “الأربعاء الأسود” بدأ التداول الحر للجنيه الإسترليني، ليتهاوى بنحو 15% أمام العملة الألمانية، وبحوالي 25% مقابل الدولار الأمريكي. وربح “سورس” نحو مليار دولار من عملية الرهان على سقوط الجنيه الإسترليني، بالإضافة إلى شهرته الواسعة التي جعلته يعرف بـ”الرجل الذي أجبر بنك إنجلترا على الانحناء والاستسلام

في المملكة المتحدة، يُعرف سوروس بأنه “الرجل الذي تسبب في إفلاس البنك المركزي” عام 1992. وكان قد استدان، بجانب محللي عملة آخرين، مبالغ بالجنية الاسترليني، ثم باعها، الأمر الذي تسبب في تراجع سعر العملة في السوق، وأجبر المملكة المتحدة على السحب من آلية التبادل الأوروبية. وحقق ربحا من هذه العملية بلغ مليار دولار.

سورس لديه سمعة باعتباره أكثر المضاربين نجاحًا في العالم. دعونا لا ننسى أنه قبل وبعد بيع الجنيه الإسترليني ، كان سوروس مدير صندوق ناجحًا بشكل كبير مع شركة Soros Fund Management LLC ، حيث حقق عوائد عالية بشكل استثنائي للمستثمرين.

حتى آسيا وفرنسا لم تنجيا من تلاعب المضارب اليهودي الأمريكي في البورصات والعملات، ففي عام 1997، وخلال الأزمة الاقتصادية التي ضربت دول النمور الآسيوية، اتهم مهاتير بن محمد رئيس مجلس الوزراء الماليزي ، سورس باستخدام ثروته لمعاقبة منظمة الآسيان بعد ضم ميانمار كعضو جديد فيها، وأسماه مهاتير حينها بـ”الغبي والأبله”.   

فضيحة أخرى تظهر مدى عبقرية جورج في المضاربة، ففي عام 1988، عرض عليه الانضمام إلى عملية استحواذ للبنك الفرنسي سوسيته جنرال، فرفض، لكنه بعد فترة وجيزة، اشترى بعض الحصص في البنك، ما دفع بالسلطات الفرنسية إلى إجراء تحقيق عام 1989، وأصدرت محكمة فرنسية حكمًا على سورس عام 2002 بدفع مليوني دولار بسبب استخدامه معلومات داخلية في الصفقة المذكورة، غير أن سورس نفى هذه المعلومات، واستأنف الحكم مبررًا بأن عميلة الاستحواذ كانت علنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *