تاريخ الاقباط 5: سقوط عمرو بن العاص آسيرا في يد الرومان

حلقات يكتبها وجيه فلبرماير من كتاب المؤرخة الانجليزية أ. ل. بيتشر

وقد بقى الرومان يحاربون ويقاومون وهم يتقهقرون ويتأخرون والأقباط ينظرون لهم شذراً ويسخرون إلى أن وصل هذا الجيش الروماني إلى بلدة الكريون (مركز كفر الدوار البحيرة) على مسيرة عشرين ميلاً من الإسكندرية وسيف العدو يعمل في رجاله عمل النار في الهشيم ولكنهم لم يعمدوا إلى الفرار ولم تخر منهم العزائم فيسلموا او يستسلموا بل هم شددوا قواهم عندما وصلوا إلى الكريون وحاربوا حرباً تشيب من هولها نواصي الولدان وان الإنهزام حليفهم فساروا إلى الإسكندرية حيث أخذوا يستعدون للدفاع عنها بقدر ما تصل إليه طاقتهم وقوتهم.


لنعد إلى مصر مسرح هذه الرواية المحزنة او هي ملعب الشيطان كما سماها يوحنا النيقاوي فنقول والآسف ملء القلوب إن المسلمين انتشروا في الوجه البحري كما ينتشر الجراد في مزرعة خضراء واخذوا يسلبون وينهبون ويحرقون ويهتكون الأعراض ويغمدون السيوف في الرقاب فلم يقف في وجوهم العبوسة سوى اثنين من اشراف الأقباط وهما مينا وقزمان وجمعا حولها جماعة غير مدربة على القتال وشنا غارة على كل اجنبي معتد سواء كان رومانيا او مسلماً فكفأ عدوان المعتدين قليلاً ورغم أنهما كانا بدون مساعده او نجده من الخارج.
وفي ذلك الوقت وصل عمرو بن العاص إلى الإسكندرية واخذ يجمع جيشه كله حول أسوارها بعد ان ترك حامية قوية في بابليون وأخذ الجزء الأكبر من جنوده إلى الشمال قاصداً الإسكندرية وعند سيره إلى هذه المدينة اجتاح بلدة نيقيوس (أبشادي) واعمل السيوف في أعناق سكانها مع أنهم لم يبدوا مقاومة وما جردوا سلاحاً فقتل كل من وقعت عينه عليه سواء في الشوارع العمومية أو في الكنائس ولم يترك رجلا ولا إمراة ولا صبي ولا شيخ إلا واورده حتفه وصير هذه المدينة قاعاً صفصفاً.

ويحكى انه لما نوى عمرو بن العاص على المسير إلى الاسكندرية وامر بنقل خيام الجنود من مكانها جاء بعضهم واخبره ان يمامتين بنتا لهما عشاً فوق سقف خيمته وأفرختا ولكن فراخهما لم يريشا بعد وما يمكنها الطيران. فأمر عمرو الجنود بعدم ازعاج اليمامتين وترك الخيمة في مكانها، وهكذا يرى صغار العقول وقصار النظر في عمل عمرو بن العاص مرحمة وانصافاً ويتباهون بهذه الشفقة على يمامتين لا تساويان فلساً ولكنهم لا يذكرون تلك القسوة والوحشية التي ارتكبها هذا المدعى عادل ومنصف في ذات اليوم او بعده بقليل عندما اهلك بلدة ابشادي الآمنة وأفنى سكانها بحد الحسام وهم لم يجنوا ذنباً وما أتوا أمراً يستحقون عليه كل هذه الخشونة والفظاعة بل هم أولى من اليمام في إظهار الشفقة والإنعطاف، والذي يدقق فيما يلي من الوقائع يجد ان هؤلاء العرب الفاتحين كانوا يصفحون عن البعوضة ويبتعلون الجمل ، هم يطبقون العدل والرحمة على المسائل الصغيرة التافهة ولكنهم يأتون منتهى القسوة والجبروت بإهلاك بلدة كاملة او إبادة أمة ولو بدون سبب.

عندما علم الإمبراطور هرقل إمبراطور الرومان بتقدم المسلمين إلى الاسكندرية اسرع فارسل البطريرك كيروس إليها ليبذل الجهد في الدفاع عنها وصد هجمات المغيرين عليها وكان قد اجتمع داخل اسوار الإسكندرية جميع الجيش الروماني في مصر وكل الرومانيين المستوطين في القطر المصري وهجروا منازلهم وربوعهم ولجأوا إلى الاسكندرية ليجتمعوا فيها مع ان هذه المدينة كان قد مزق أحشائها عامل الشقاق الداخلي الناتج عن التعصبات المذهبية وحب الرئاسة والسلطة فلم يمكن ايجاد اتحاد وإئتلاف بين ساكنيها حتى ساعة الضيق ووجود عدو أجنبي يتهددها بالخراب والدمار ولذلك كان المحتمى بها كالغريق الذي يتمسك بخيوط العنكبوت لينجو من لجة اليم.

ولم يكن في الاسكندرية وقتئذ من القادة الرومانين سوى تأودروس القائد العام ودومنتيانوس النذل الجبان الذي كان عدو لدود للبطريرك كيروس صهره ولاثنين من ارباب الحيثيات والنفوذ احدهما مصري اسمه مينا والآخر يوناني اسمه فيليادس شقيق البطريرك الروماني السابق فساء القائد تأودروس هذا العداء في وقت الضيق والنكد وحنق من تصرف دونتيانوس الممقوت ولم يظاهره على اخصامه حتى على مينا المصري.

فجرد هذا الوغد المهان وغضب وجند جماعة رومانية تسمى الحزب الأزرق في الاسكندرية ليس لقتال المسلمين ولكن لكي يحارب مينا المصري الذي رفض ذل هذا الروماني وجمع تحت لوائه مصريين يسموا الحزب الأخضر وقام الحزبان بالتقاتل في شوارع الإسكندرية بينما كان العرب يحاصرون هذه المدينة ويضيقون عليها الخناق وذلك في خريف سة 640 ميلادياً ، فلما رأي القائد العام الروماني تأودروس أن هذا هو حال الإسكندرية والعدو الاسلامي يقف على الباب بذل جهده وقاسى كل صعوبة وعناء إلى أن فض هذا الخلاف بين الحزبين ثم جرد دومنتيانوس الروماني من وظيفته ورتبته.

ومع أن المؤونة والذخيرة وباقى مواد المدد كان يتعذر وصولها للإسكندرية من طريق البر إلا ان البحر كان طريقاً أميناً لها اذ جاءها منه ماجعلها تقوى على حصار المسلمين لمدة سنة كاملة ولو ان الضعف الداخلي الناشئ عن الإنقسامات أنهك قواها واضاع مزيتها، وقد أصبح ساكنوها يترقبون مجئ النجدة من القسطنطينية ولكن الحكومة الرومانية فيها كانت قد بلغت من الاختباط والارتباك مبلغاً لا يساعدها على إرسال نجدة لإسترداد مصر تكلفها من المصاريف والمتاعب ما لا قبل لها به.
هذا الإرتباك نتج من أمرين أولها ان هرقل مرض مرضا عضالا قضى على حياته في شهر فبراير عام 641 والثاني ان هذا الإمبراطور كان قد اقترن بإبنة أخيه “مرتينة” قراناً كانت تعتبره الكنيسة فحشاً وزنى خصوصاً وانها ولدت له ولداً قصد هرقل ان يقاسمه السلطة مع ابنه الأكبر قسطنطين الذي كان واهي القوى واهن العزيمة ، فلما وقفت الكنيسة على مشروع هرقل همها إلى مقاومته ونسيت كل امر غيره. وعندما ما بلغ تأودروس القائد خبر وفاة هرقل إغتم واستولى عليه اليأس لانه لم يكن يرجى نفعا من خلفه ثم ان مينا ودومنتيانوس والبطريرك كيروس اتفقوا على مهادنة المسملين وعقد صلح معهم فلم يقو تادودروس على رد اتفاقهم هذا الذي كان قد سرى بين وجهاء الإسكندرية فأصبحوا يتحدثون بالتسليم للعرب وتقرير مواد الخضوع لهم خضوعاً كاملاً.

ومعلوم عند الذين يقولون بالسعد والنحس ان الزمن إذا جار على أمة اعمى بصيرتها عن كل شئ يكون فيه تقدمها ونجاحها ودليل هذا المبدأ ان الرومانيين في الإسكندرية ساق لهم القدر بختاً ولكن النحس الذي استحكمت حلقاته اغمض ابصارهم عن هذا البخت المليح ففر من أيديهم. وتفصيل ذلك ان موقعة كبرى حدثت بين الروم والمسلمين العرب عند أبواب الإسكندرية أخذ فيها عمرو بن العاص واحد قواد جيشه أسرى وجئ بهم أمام القائد العام الروماني تأودروس الذي حادثهم وتكلم معهم طويلا دون ان يعرف حقيقة رتبهم ووظائفهم فحدث في أثناء الحوار والحديث ان فرطت من عمرو بن العاص بادرة كادت تكشف سره وتظهر أمره لولا ان معتوقه تنبه لذلك وصفع عمرو على وجهه قائلاً له ان يسكت ولا يفوه بكلمة امام أسياده لانه من معاشر الجنود الأصاغر .

ثم تقدم القائد الذي كان مع عمرو واتم الحيلة على تأودروس وكيروس بقوله انه سيعرض امر هذه الهدنة على كبيرهم عمرو عند رجوعهم إليه وبهذه الخدعة لم يشعر الاسكندريون بأن عمرو بن العاص وقع في أيديهم إلا بعد عودته لمعسكره إذ ضج الجند وكبروا بسلامته من الخطر ونجاته من الأسر فحينئذ فهم أولئك المساكين أنهم أضاعوا فرصة ثمينة استعاضوها بقولة “ياليت” وهل تنفع شيئاً كلمة ياليت؟؟

لم يكف الرومان عن مقاومة المسلمين وقتالهم حتى اوشكوا ان يبعدوهم عن الإسكندرية ويردوهم على أعقابهم خصوصاً ان قائدهم عمرو بن العاص لم يكن على علم تام باساليب القتال في مثل هذا الحصار بل هو كان يقتحم المواقع بطريقة يقول عنها رجال الحرب انها لا تضمن الغلبة لولا أن السعد خدمه والهلع تمكن من أفئدة خصومه الذين لم يجدوا مندوحة عن ابطال الحرب وتفويض كيروس بالمفاوضة مع عمرو في ما يختص بشروط الصلح والتسليم وانسحاب الجيش الروماني من ارض الفراعنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *