تاريخ الاقباط 4: رفض الاقباط مساعدة الرومان فذاقوا الذل من العرب

حلقات يكتبها وجيه فلبرماير من كتاب المؤرخة الانجليزية أ. ل. بيتشر

تاريخ الأقباط المجلد الثاني كما كتبته مسز أ. ل. بتشر عام 1897 – الحلقة الرابعة

لم يساند الأقباط الرومان ضد المسلمين فذاقوا الأمرين على مدي القرون

بعد ان عادت المصرية الوطنية “أرمانوسة” إلى أبيها المقوقس، كظم ابيها غيظه منها لأنها قاومت العرب الذين تعاهد معهم على ان يسلمهم وطنه لقمة باردة بدون حرب او عناء ولم يستطع توبيخها أو تعنيفها لأنه كان لا يزال تحت سلطة الرومانيين ولم تصر مصر بعد إلى أيدى العرب العتاة المغيرين خصوصا وان بابيلون كانت محصنة منيعة لايمكن أخذها إلا بالمكر والخديعة.

وربما يذكر القراء أن النيل كان قريباً من بابيلون ومصر القديمة أكثر من الوقت الحاضر وكانت بابيلون متصلة مع منيل الروضة بواسطة كوبري من المراكب رصها الرومانيون وقت نشوب الحرب، كما أنهم أوصلوا الروضة بالجيزة بهذه القوارب لكي تكون القوات العسكرية متلاصقة متلاحمة مع بعضها البعض فلا يستطيع العدو قطع خط الرجعة عنها.

أما غرض جرجس المقوقس في هذا الوقت فكان مساعدة عمرو بن العاص على أخذ بابيلون مساعدة سرية لانه كان يتظاهر بنجدة مولاه الإمبراطور الروماني والميل لقائد الحملة الرومانية وتعضيده.

وعندما بلغ هرقل عن إغارة العرب على مصر ، كان عارفاً بضعف مركزه فيها وعدم ميل سكان مصر له ، فأرسل مندوبه الخصوصي وهو البطريرك كيروس ليتفاوض مع عمرو بن العاص على الانسحاب على شرط ان يدفع له هرقل مبلغاً معلوماً من المال.

وكان وصول كيروس إلى مصر في الوقت الذي ضرب عمرو فيه خيامه على مقربة من بابيلون وحاصرها ذلك الحصار المشهود الذي لم يكن يفيد في أخذ هذه القلعة المنيعة لولا غدر وخيانة المقوقس، فلما جاء كيروس إلى عمرو لم يخبره بما قاله له الإمبراطور من أمر المال فقط بل زاد عليه من عنده أنه إذا غادر العرب مصر فسوف يزوج إيدوشيا ابنة الامبراطور أو احدى الأميرات بالخليفة عمر بن الخطاب، ولكن عمرو لم يقبل هذا الشرط لانه كان قد اتفق فعلا مع الوالي جرجس المقوقس الذي يعتبر عنده اكثر مقدرة وأنفع له من هذا البطريرك كيروس.

من ناحية أخرى قد ساء الأمبراطور هرقل مافعله البطريرك كيروس في عرضه أمر زواج إبنته بالخليفة وهو رجل مسلم، فإستدعاه للقسطنطينية وكان عازماً على قطع رأسه لأجل فعلته وتعريضه بعرضه. وبعد ذلك دام حصار بابيلون حوالس سبعة أشهر كاملة أرسل أثنائها عمرو بن بالعاص للخليفة عمر بن الخطاب يطلب الإمدادات فلما وصلته بعد ان واصلت سيرها إلى الفيوم.

كان عمرو يريد قطع المدد الذي يجئ من الإمبراطور لمساعدة الحامية الرومانية في مصر وكذلك ثيودوسيوس واناستاسيوس قائدا الجيش في الوجه البحري اللذان حفظا الرجعة بينهما بين حامية بابيلون مما زاد في قوة هذه المدينة منعة وبطشاً، ورأي العرب انهم لا يقدرون على مهاجمة هذا الجيش الروماني من جهة النيل، فرجعوا القهقري وأخذوا يسلبون الاغنام والمعيز من المصريين ليقتاتوا بها عندما يشتد بهم الجوع، كما هي عادتهم في كل زمان ومكان.

سارت إلى الفيوم فرقة من الجند الروماني تحت إمرة قائد اسمه ليونيوس اشتهر بغلاظة جسمه وغلاظة عقله وبلادته وجهله للفنون الحربية فلما وصل جنابه إلى الفيوم، وجد نار الحرب مستعرة بين قائدها والمسلمين فترك نصف الجنود التي معه لمساعدة القوات الرومانية ، اما هو فكر راجعا بالنصف الثاني ليخبر رؤساءه بما رأه وقد ظن ان عمله هذا هو منتهى الشجاعة لأنه وطأ ارض الفيوم وعاد منها سالماً غانماً دون ان يجرد سيفا.

وقد ظل عمرو سبعة اشهر يهاجم بابيلون ويغير عليها بكل قواته وهو يحاول اقتحامها ولكنه لم يفلح لذلك دبر طريقة اخرى هي انه قسم جيشه إلى ثلاث فرق وضع الاولى في عين شمس لمنع الإسعاف الذي يأتي للرومانيين من الشمال ووضع الفرقة الثانية خلف بابيلون من جهة الشمال الشرقي وعسكر بالثالثة في قلعة واقعة على شاطئ النيل جنوب غرب بابيلون.

أما الأقباط فكانوا ينظرون إلى تعارك هاتين الدولتين الأجنبيتين نظر الحائر الذاهل، لانهم كانوا يبغضون الرومانيين وذكراهم لقبائحهم مما منعهم من الإنحياز لجانبهم ، وفي نفس الوقت لم تسمح لهم ضمائرهم أيضا بتعضيد قوم يدينون بغير دينهم ، وكأنهم شعروا بأنهم سيعذبونهم ويضطهدونهم فتركوا تدبير هذا الأمر للعناية الإلهية ولم يمدوا يدهم لأحد من الطرفين، وكان مثلهم مثل غلام قاصر رأي رجلين يتخانقان ويتقاتلان على ميراثه فلم يشأ ان يساعد أحدهما لكراهيته لهذا ولخوفه من ذاك.

وقد إتفق جماعة المؤرخين على ان بابيلون سقطت في أيدي المسلمين بواسطة الخديعة والحيلة ولم يأخذوها بحرب وضرب ولا إحتلوها بتسليم من الرومانيين تحت شروط مقررة، وقد شرح بعض الكتاب هذا الإجمال فقال أن جرجس المقوقس أقنع قائد الجيوش الرومانية بالانسحاب من قلعة بابيلون إلى منيل الروضة فجاء العرب حينئذ على اشارة من جرجس واحتلوا هذه القلعة، أما كون جرجس كان ممالئاً للعرب متحداً معهم متفقاً على إخطارهم بجميع حركات وسكنات الجيش الروماني فهذا أمر لاتجادل فيه لانه صحيح ثابت.

ولكن الذي يمعن قدر برهة في ساحة القتال ويتدبر مواقع الجيش وأهمية مراكزه يصعب عليه تصديق أن القائد الروماني ينخدع إنخداع جاهل غر لدرجة أنه يظن ان جزيرة الروضة أمنع وامتن من قلعة بابيلون كما ان الشواهد والثوابت التاريخية تدل على ان الجندي الروماني كان من أكثر جنود الأرض أمانة لدولته وحبا لوطنه فلا يرضى بالسير خلف الخائنين واتباع رأي الماكرين والتغرير بوطنه وشرفه مما يعد من أفعال الجبناء، المرذولين، إذاً ففي الأمر وجه آخر ذكره يوحنا النيقاوي نسرده لك هنا عساه يكون أقرب إلى العقل والأكثر صواباً في الآراء وأكثر صحة.

قال هذا المؤرخ المدقق ان عمروا عمد إلى خدعة – والحرب خدعة – نجح فيها ، هي أنه تقهقر كما يتقهقر الغلوب حتى يجر الجيش الرومانيوراءه ويخرجه من قلعة بابيلون. فكان من حسن حظه وسوء بخت مصر أن الرومانيين انخدعوا وظنوا أنهم هزموا الأعداء فترك الرومان قلعتهم وجدوا في آثرهم وحينئذ برزت فرق من فرق العرب الثلاث التي ذكرناها آنفا وقطعت على الرومانيين خط الرجعة وأحاطت بجيشهم إحاطة السوار بالمعصم فوقعت بين الجيشين معركة شعواء سوداء أظهر فيها الجيش الروماني منتهى البسالة والشجاعة وقاتل الأعداء قتال المستبسل وخرقت ثلة منه صفوف العرب وهي تفتح طريقها بحد الصارم إلى ان وصلت جزيرة الروضة ومنها ولت الأدبار وليم يبقى في قلعة بابيلون سوى 300 مقاتل فقط الذين لما ابصروا ماحل بإخوانهم، كمنوا في مخابئ القلعة وظلوا يقاومون جيش العرب الجرار برهة من الزمن إلى ان اعيتهم الحيلة وهمدت قواهم ورأوا حرج مركزهم وضيق فإتفقوا مع الرعب أن يسلموهم القلعة ويكفوا عن القتال على شرط أن لا يصيبهم مكروه وان يلحقوا بباقي الجيش المتقهقر عند الروضة.

وكل من تصفح التاريخ كان يعرف ان جرجس المقوقس كان قبل وقوع البلاد في قبضة المسلمين قد اشترط مع عمرو شروطاً تختص بجميع سكان مصر من غير الرومانيين ومن ضمن هذه الشروط شرطاً يخول للأقباط الحرية الدينية المطلقة إذا هم دفعوا الجزية ولم يقاوموا العرب في احتلالهم لمصر وقد أقسم عمرو الإيمان المغلظة بتنفيذ هذا الوعد مع المصريين على السواء.

وقد اشغلتنا شروط عمرو ووعوده مع صاحبنا دومنتيانوس قائد الجيش الروماني في الفيوم ولم نعرف ماتم له فلنعد الآن إلى حكايته وهي أن جنابه لما بلغه خبر سقوط بابيلون ترك مدينة الفيوم وتقهقر منها هو وكل جنوده ولكن بانتظام وأخلى هذه المديرية للعرب راضياً من الحرب بسلامة رأسه دون ان يجرد في وجه الأعداء حساماً ويسفك في سبيل الدفاع عن مركزه نقطة دم بل عبر هو وجنوده النيل لشمال الجيزة وسار بجد الخطى إلى الإسكندرية.

لم يرض القائد الروماني الإنضمام إلى بقية الجيش الروماني الذي كان يسير على نيقيوس وهي الآن أبشادي بمركز تلا بالمنوفية كما ذكرنا حيث يقف في وجه العرب وينازلهم معركة فاصلة ولكن عمرو بن العاص لم يسمح للجيش الروماني باتمام هذا التدبير فانه صبر حتى بدأ هذا الجيش في المسير إلى الشمال ثم تبعه بفرقة من جيشه ليقضى عليه القضاء الآخير فالتقى في طريقه بدومنتيانوس وجيشه الذي فر من الفيوم ولكنه لم يلق منه مقاومة لان دومنتيانوس لما بلغه خبر اقتراب العرب منه، ترك جنوده ونزل في قارب صغير ابحر به إلى الإسكندرية ولم يتأخر جنوده في السير في أثره فطرحوا أسلحتهم وعدادهم على شاطئ النهر وانحدروا إلى السفن يبغون الهرب ، حينئذ اضطرب البحارة منهم وهربوا وخافوا وولوا الأدبار ولجأوا إلى قراهم خائفين وجلين وحينئذ وقع هؤلاء الجنود المساكين في أيدي العرب الذين احاطوا بهم وذبحوهم ذبح الأغنام وسالت دماؤهم في النيل فلونت ماءه بلون احر قان ولم ينج من هذه الكتيبة إلا جندي واحد اسمه زخاري فراً مقتحم الاهوال وقص هذا الخبر المريع على الآخرين.

أما باقي الجنود الرومانية التي كانت في بابيلون وهزمت فإنها لما التقى بها عمرو واتت عملاً يسطر لها بكل ثناء وإعجاب في بطون التواريخ مع كونها كانت قليلة العدد، لايزيد رجالها عن مائة وقفت ثلاثة اسابيع كاملة في وجه عدو شديد البطش كثير العدد والعدة، واكثر رجاله يحاربون فوق متون الجياد الصافنات كما ان أكثر الاهالي لم يمدوا يدا لتعضيد هذه الفئة الباسلة بل أظهروا لها كرهاً وبغضاً لانها من الرومانيين الذين ينفر من ذكرهم المصريون ويستعيذون بالله من اعمالهم التي أوجبت كل هذا الشر وجرت على مصر البلاء المر.

كذا الجيش المستحفظ او العساكر الغير منظمة الذين جمعهم الرومان من المصريين لم يحاربوا العرب ولم يرفعوا في وجههم السلاح لانهم كانوا مثل باقي أخوانهم الأقباط لا يعرفون من هؤلاء المسلمين إلا انهم قوم يمتازون عن الرومانيين بعدلهم وإنصافهم، وأنهم أمة تمارس فرضية ختان الرجل مثل مسيحي مصر وتؤمن إله واحد وتنادي بدين جديد تقول انه دين الحق والإصلاح.

هذا كل الذي عرفه الأقباط عن المسلمين عند اقتحامهم لمصر ولذلك رحبوا بهم وفرحوا بقدومهم ولكن هذا الفرح لم يكمل لانه بعد مضي ستة شهور فقط على دخول العرب مصر ، ندم الأقباط على غلطة شنيعة ارتكبوها في مساعدتهم العرب على إحتلال مصر وعضوا نواجذهم أسفاً وحزناً ، لأنهم أرادوا التخلص من ظالمين فوقعوا في حبائل قوم أكثر ظلماً ووحشية من الأولين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *