تاريخ الأقباط 2: القبطي الخائن جرجس بن مينا بركوبوس

حلقات يكتبها وجيه فلبرماير من كتاب المؤرخة الانجليزية أ. ل. بيتشر

المصري الخائن “جرجس بن مينا بركوبوس” سلم مصر لعمرو بن العاص

في سنة 629 أقام هرقل حرباً عوناً على الفرس في أنحاء المملكة الرومانية وأحرز فيه نصراً باهراً ، وحينئذ أدار وجهه نحو مصر ليستردها من أيديهم. وقد دربته الحنكة والتجارب انه لا يستطيع اعادة هذا القطر لقبضة يده إلا إذا هو اصطلح مع الأقباط واتفق مع سكان مصر على العموم ، فلذلك جمع لديه أثناسيوس بطريرك أنطاكية وسرجيوس بطريرك القسطنطينية وكيروس أحد أساقفة المملكة الغربية واستشارهم على تباين آرائهم في أنجح الطرق لإتمام هذا الصلح

وبعد جدال طويل اتفقوا على عدم ذكر مجمع خلكيدونية على الألسنة حيث أن ذكره بالمدح أو بالذم يثير ثائرة الأحزاب ويغضبهم . ثم قرروا أيضاً وضع مشروع سموه مشروع الاتحاد ومعناه القول بأن لربنا مشيئة واحدة بدل قولهم طبيعة واحدة فصادق الثلاثة أحبار السالف ذكرهم على هذا الرأي ومن ثم عين الإمبراطور الأسقف كيروس بطريركاً للإسكندرية وأنفذه إليها بكل أنواع السلطة والقوة التي يمكنه استعمالها في إتمام الصلح الذي قر القرار عليه

فلما وصل كيروس إلى الإسكندرية لم يجد صعوبة في إتمام مأموريته لأن عامة الشعب القبطي والإكليروس قبلوا مبدأ الاتحاد هذا مادام أن القول بمشيئة واحدة يؤيد إعتقادهم بطبيعة واحدة فلذلك اتحدوا مع الكنيسة الرومانية من هذا الوجه وقالوا بأن هذه الكنيسة قد انضمت إليهم وصارت تذهب مذهبهم . وكذلك الأروام صادقوا على هذا الرأي الجديد وقبلوا المبدأ الذي وضعه الإمبراطور بكل رضى وإرتياح

إلا أنه قام في الإسكندرية رجل من أصدقاء يوحنا المحسن اسمه صفرونيوس وكان مسموع الكلمة في الكنيسة الرومانية مشهوراً بعلمه وسعة إطلاعه وحاجج البطريرك وجادله وناقضه ورجاه ألا يذيع هذا التعليم الجديد، ولكن البطريرك القبطي أبي البحث في هذا المشروع وقال أنه لا يقبل قراراً دينياً يصدره الإمبراطور لأنه ليس من خصائصه ولا من شأنه وضع الشرائع اللاهوتية ، فاحتار كيروس البطريرك الروماني في هذا الأمر وعلم أن الصلح لا يفيد بشيء ولا ينفع النفع السياسي المطلوب ان لم يصدق عليه البطريرك ويقبله ولذلك سعى في تنفيذ رأيه بالقوة والقهر فأصبحت حيوة وجهاء الأقباط الذين عضدوا البطريرك في فكرة مهددة بالخطر وعليه برحوا الإسكندرية حالا

وانتهى الأمر بنفي البطريرك القبطي بنيامين إلى دير حقير في مصر الوسطى وكذلك غادر صفرونيوس مصر إلى سوريا حيث اختير فيما بعد بطريركاً لأورشليم . وقد سر هرقل بالنجاح الذي صادفه بطريركه كيروس فاخذ يستعد للذهاب إلى أورشليم في السنة التالية لزيارة الأراضى المقدسة ، ففي هذه الزيارة حدثت حوادث مهمة سيأتي ذركرها نتج عنها فرض صوم سمي ” صوم هرقل” لا تزال الكنيسة القبطية وكنائس الشرق بأسره تصومه سنوياً إلى يومنا هذا

ومنح هرقل يهود سوريا الأمن والسلم بناء على ما قدموه له من الهدايا الفاخرة والعطايا الثمينة ولكن عندما جاء إلى أورشليم للزيارة والحج اندهش وذهل عندما رأى الخراب والدمار قد استوليا عليها من أفعال اليهود ، أكثر مما فعله الفرس فيها من خراب وذلك لأن جماعة اليهود أفنوا كل ما وصلت إليه أيديهم في هذه المدينة المقدسة مما دل على شدة كراهيتهم للديانة المسيحية

ولما قابل مسيحيو سوريا الإمبراطور هرقل طلبوا منه أن ينتقم لهم من اليهود ، وقال المقريزي في هذا الصدد :” وحينئذ أفهم هرقل المسيحيين أنه لا يستطيع التصريح لهم بذبح اليهود لأنه وعدهم بالأمان وأقسم لهم إيماناً مغلظة بحفظ حياتهم فهو لا يمكنه الحنث في يمينه أو تغيير وعده ، فقام جماعة الرهبان والبطاركة والقسيسين يحاجون هرقل ويقنعونه بقولهم أن يمينه لا تعتبر سبباً في عدم ذبح اليهود ما داموا هم قد مكروا به واستعملوا خبثهم المعروف عنهم في أنهم تحصلوا على وعد منه ثابت يحفظ حياتهم قبل ما يعرف حالتهم والأضرار التي ألحقوها بالمسيحيين ، وفضلاً عن ذلك فإنهم يأخذون على عاتقهم التكفير عن حنثه في قسمه بأن يصوموا هم وجميع المسيحيين أسبوعاً كل سنة على الدوام

اقتنع هرقل بهذا الكلام وأمر بالحملة على اليهود ، حملة يحمر لها جبين الإنسانية خجلاً وحزناً إذ أفناهم ولم يبق منهم أحد في ولايات رومية ومصر وسوريا سوى الذين هربوا أو أخفوا أنفسهم في مغائر الجبال وكهوفه .\r\n\r\nومن ذلك الحين أرسل بطريرك أورشليم وأساقفته منشور إلى جميع البلدان يؤكدون فيه على المسيحيين بصوم سبعة أيام كل سنة لا يزالون يدعونا “أسبوع هرقل” وأعيدت سلطة الرومانيين على مصر ولكنها كانت إلى حين ما أنها لم تعد بقوتها الأولى ، فإنه بعد طرد الفرس من مصر اكتفى الرومانيون بوضع حاميات عسكريه في الوجه البحري لم تتعد جنودهم مديرية الفيوم جنوبا

وظل الوجه القبلي يحكم نفسه بنفسه إلى أن جاء ذلك الشخص الوهمي الذي يسمونه المقوقس ، ولم يمض زمن يذكر بعد هذا التاريخ حتى بزغ من صحاري جزيرة العرب عدو جديد مخيف ظهر ليحط المملكة الرومانية وينزل بها على الحضيض وهذا العدو هو الأمة العربية التي قامت مدفوعة بقوة هائلة وهي قوة الدين الحديث الذي ظهر بينها

ومع أن الرسول محمد صاحب هذا الدين كان قد أنتقل من هذا العالم إلا أن خليفته عمر بن الخطاب سار في فتوحاته سيراً سريعاً إذ استولى على أكثر بلاد المشرق ولم تجئ سنة 640 (وليس سنة638 كما يزعم بعض المؤرخين) حتى انتهى قائدهم المغوار عمرو بن العاص من فتح سوريا إذا جعل وجهته مصر ذلك البلد الطيب الأمين وبواسطة الحيلة والخديعة حصل عمرو على تصريح من الخليفة بفتحها ، حيث أن عمرو بن العاص أرسل يسأل الخليفة عمر بن الخطاب التصريح له بفتح مصر فأجابه عمر أنه إذا كان قد دخل حدود مصر عند وصول الجواب إليه فليتقدم ويحاربها وإلا فليعد أدراجه وقيل أن عمر أدرك ما في الجواب بواسطة من الوسائط قبل أن يطأ أرض مصر ولم يفتحه إلا بعد أن وصل أراضيها وعسكر فيها

الفتح الإسلامي سنة 640 حسب التقويم الميلادي و 365 حسب التقويم القبطي و 18 حسب التقويم الهجري

لقد عرفنا في الذي مر من الأحداث أنه عندما شرع العرب يفتحون مصر كان المصريون في ضيق وضنك شديدين من الحكومة الرومانية الحديثة التي أستردت البلاد من الفرس وقبل هذا الفتح العربي بنحو عشر سنوات وضع أكثر ولاة مصر أيديهم على الجزية التي كانت تتقاضاها الحكومة الرومانية من هذه البلاد ، لأن ههذه الحكومة كانت بلغت من الضعف والوهن مبلغاً لا تستطيع معه جمع الإتاوة المضروبة من القطر المصري فأصبح اثنان أو ثلاثة من حكام الأقاليم المصرية ملوكاً غير متوجين لأنهم استقلوا في إدارة أموره ولاياتهم عن سلطة الفرس والرومان عل السواء حتى أنه لما طرد هرقل الفرس في عام 630 واسترجع مصر لقبضة يده لم يمكنه مد سلطته عليها كما تقتضيه شروط الدول المحتلة لأنه كان عارف بضعف قوته وزعزعة أركان سطوته فظل ينتظر الفرص المناسبة التي فيها ينقاد المصريون إلى مشروعه الديني الآنف ذكره فيستميلهم لجانبه بواسطة الدين ويرفع من بينهم الاختلاف المذهبي الذي كان السبب القوي في كل تلك القلاقل والإضطرابات ولكن ولاة الأقاليم المصرية وجلهم من الأقباط كانوا يفزعون من الحكومة الرومانية ويخافون اليوم الذي تعود فيه سلطة هذه الحكومة وتتملك في رقابهم لأسباب شخصية وسياسية معاً ، فلذلك كانوا يسعون في تقليص ظلها وتقويض أركانهم بجميع ما لديهم من وسائل القوة والنفوذ

ولو أتاح الحظ للحكومة الرومانية وقبل البطريرك المصري بنيامين ذلك المشروع الديني الذي وضعه الإمبراطور وقال فيه ان للمسيح مشيئة واحدة بدلاً من طبيعة واحدة لأصبح أولئك الحكام السمان بلا قوة تذكر ولأستتب الأمر للرومانيين في هذه البلاد البائسة. ولكن الإمبراطور هرقل أعماه ذلك النجاح الضئيل الذي صادفه بطريركه الروماني كيروس في مصر من قبول فئة قليلة من الأقباط لمشروعه ولذا فلم يحسب هذا الإمبراطور للبطريرك بنيامين ادنى حساب بل اضطهده وأغاظه ونفاه لأنه رفض قبول مبدأه مما جعل خاصة المصريين وأكثر عامتهم يقتدون ببطريركهم يرفضون كل قول لا يصادق عليه وهذا دليل على أن الأقباط من قديم الزمان يتعلقون ببطاركتهم ويسيرون خلفهم ولو كان بعض هؤلاء البطاركة لا يستحقون كل هذا التعلق والميل

ومن ذلك الحين جحد الرأي العام المصري الإمبراطور هرقل ونفر منه نفوراً كبيراً وبدأ كيروس يشعر بخطورة مركزه وبالفشل الذي أصابه في مشروعه ومشروع الإمبراطور كما أن بعض الحكام والولاة الخائنين اتخذوا من هذا النفور فرصة يتخلصون بها من سلطة الرومان ويطرحون نيرهم من على أعناقهم

وكان من هؤلاء الولاة المتمردين ما يدعى المقوقس وقد أكتشف أحد علماء أوربا أوراقاً من البابيروس المصرية أي أوراق البردي يزيح الستار عن هذه الشخصية التي تضاربت الأقوال عنها وأفكار المؤرخين في كشفها

ذهب معظم المؤرخين إلى أن كلمة المقوقس لم تكن اسماً ولكنها كانت لقباً أو رتبة والحقيقة ليست كذلك فان هذا الرجل الذي كان والياً في مصر اسمه الصحيح هو ليس المقوقس ولكن “جرجس بن مينا بركوبوس” فهو مصري لا ريب فيه وكان ولاة مصر في هذا الوقت ملكيين أي غير عسكريين وعهد إليهم إدارة الولايات في ما يخص مسائل الضبط والأمن العام وإدارة تحصيل الضرائب الأميرية ومراقبة الأشغال العمومية مثل السكك والجسور وحفر الترع وتطهيرها وتشييد الكباري والقناطر وصك النقود وتحديد المكاييل وضبطها

ولم يكن خارجاً عن سلطة الوالي سوى الجيش الذي كان في كل مديرية حامية صغيرة قليلة العدد وجماعة الكهنة وهم أقوى من الوالي والجيش معاً وقد عرفنا من هذا الإكتشاف الحديث الذي أشرنا إليه أسماء حفنة من مشاهير الولاة في مصر وحدود وظائهم وهم الذين كانوا موجودين في وقت الفتح الإسلامي وسنذكرهم بالتفصيل الكافي الذي يلي هذا الكلام بعد أن نشرح معنى كلمة المقوقس وأصلها واشتقاقها

معلوم أن لغة الحكومة الرسمية في مصر كانت اللغة اليونانية وكان ولاة مصر يفخمون ويعظمون بواسطة كلمة يونانية تضاف في أوائل أسمائهم كما نستعمل نحن في العربي كلمات “جناب وسعادة أو المحترم” وهذه الكلمة الرومانية هي كلمة “مقوقس” ومعناها ” الأفخم ” والتي ظنها العرب جزءاً من اسم هذا الخائن الذي سلم مصر لعمرو بن العاص واستخدموها كأنها أسمه ولكن اسمه كان “جرجس بن مينا بركوبوس

أما وقد عرفت معنى المقوقس فلنسرد لك حكاية أولئك الولاة الثلاثة وأولهم آمون مينا والي الوجه البحري لا نعرف عنه سوى أنه كان كثير الادعاء والخيلاء جاهلاً متغطرساً يكره المصريين كرهه للموت ولذلك بقى في وظيفته حتى بعد إستيلاء العرب على مصر وثانيهم كيروس حاكم مصر الوسطى أو الجانب الغربي من النيل المحتوي على أقاليم الفشن والمنيا وبني سويف ولم يشتهر بشيء إلا باهتمامه واجتهاده في تسليم مصر للمسلمين . وثالثهم هو جرجس الذي يدعونه المقوقس والي الوجه القبلي بما فيه بابليون (مصر القديمة) التي اتخذها عاصمة لولايته وكان في كل هذه الولايات الثلاثة قائد عسكري يدير مهام حامية تحتلها الحكومة الرومانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *