واشنطن غافلة عن أهمية الإصلاحات السعودية

في خضم الخلل الذي أصاب العلاقات السعودية الأمريكية، يتغاضى المسؤولون الأمريكيون عن التحولات الكبيرة التي يمر بها المجتمع السعودي، والتي تعدّ من أهم التطورات التي يتم التغاضي عنها، والتي سيكون لها تداعيات تتجاوز حدود الشرق الأوسط.

ومع ذلك، فإن معظم المسؤولين في إدارة بايدن والكونغرس ووسائل الإعلام والأمريكيين بشكلٍ عام لا يدركون مدى هذه التحولات، وحجم الإصلاحات السعودية، والمصلحة الهائلة للولايات المتحدة في نجاح هذه التحولات.

يجري الآن إصلاح الاقتصاد السعودي، وتنويعه، ويتم إنفاق مليارات الدولارات على مشروعات جديدة تخلق آلاف الوظائف في قطاعات السياحة والنقل والطاقة المتجددة. كما يتم تمكين النساء السعوديات ومنحهن حقوقاً جديدة في تطورٍ يغير وجه المجتمع السعودي، وأصبحت الأنشطة الثقافية التي كانت غائبة تماماً عن الأماكن العامة تحظى برعاية واحتضان الدولة، وانتشرت دور السينما، والعروض الفنية، والحفلات الموسيقية، والمتنزهات الترفيهية، ومهرجانات الأوبرا في مختلف أنحاء البلاد.

وفي الوقت نفسه يجري نشر نسخة أكثر تسامحاً واعتدالاً من الإسلام، وتم حذف المحتوى المثير للكراهية من الكتب المدرسية، وبدأ العمل على حثِّ المسلمين في جميع أنحاء العالم على احترام أعراف وقوانين الدول التي يعيشون فيها.

ولكن معظم الأمريكيين غافلون عن هذه التغيرات، والسبب في ذلك هو أن مشروع الإصلاح السعودي -المعروف باسم رؤية 2030- هو من بنات أفكار الحاكم الفعلي للبلاد، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي ربطه مجتمع المخابرات الأمريكي -بناء على أدلة ظرفية- بمقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، الأمر الذي جعل كل شيء آخر في المملكة يبدو ثانوياً في عيون الأمريكيين.

ربما يكون هذا الأمر مفهوماً بالنسبة لعموم الأمريكيين، ولكنه مؤسف للغاية بالنسبة للقادة في إدارة بايدن وفي الكونغرس الذين يتحملون مسؤولية الأمن القومي في البلاد. إذ يمكن التمسك بالسياسة التي يتبناها الديمقراطيون في مجال حقوق الإنسان، والقيم الديمقراطية، دون التغاضي عن العملية التاريخية غير المسبوقة للتحرر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني التي ستعود بالفائدة، ليس على عشرات الملايين من السعوديين فقط، بل على أمن الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية بشكلٍ عام أيضاً.

إن مستقبل المملكة مهم جداً بالنسبة للولايات المتحدة، فهي عضو في مجمع الدول العشرين الكبرى، وهي أكبر مصدّر للنفط في العالم، ومهد الإسلام وموطن أقدس مسجديها، وهي بذلك تتمتع بأهمية كبيرة بالنسبة لخمسين دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم.

وعلى مدى الثمانين عاماً الماضية، كانت المملكة الشريك الاستراتيجي الأول في الخليج العربي، وقدمت دعماً حاسماً في مواجهة الخصوم المشتركين، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي، وإيران، وتنظيم القاعدة، والدولة الإسلامية. وإذا ما تطور الانفتاح الأخير على إسرائيل إلى تطبيعٍ كامل للعلاقات معها، فيمكنها عندئذ أن تغير الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، وأن تعزِّز الجهود الإقليمية لاحتواء وكبح التوجهات العدوانية لإيران.

وعلى الرغم من الحاجة للمزيد من الحريات السياسية، يمكن القول إن ولي العهد يعمل على توسيع المساحة المتاحة للحرية الشخصية للسعوديين إلى درجةٍ غير مسبوقة في تاريخهم الحديث. فقبل عقد من الزمن كان الانطباع الذي يأخذه الزائر للملكة عن السعوديين أنهم شعب متجهم قاتم كاره للأجانب، ورعايا غير منتجين يعيشون على سخاء الحكومة والعمالة الأجنبية في جو من التعصب الديني. وفي غضون سنواتٍ قليلة، أصبح يسود الرياضَ شعورٌ بالديناميكية والطاقة والأمل بالمستقبل، فالقطاع الخاص آخذ في التوسع، والشباب والنساء يدخلون سوق العمل بأعداد قياسية، ويؤسسون الأعمال التجارية، والبلاد تفتح أبوابها على بقية العالم في مجالات السياحة والتجارة والثقافة بطريقةٍ لم يسبق لها مثيل.

ولكن يبدو أن معظم المسؤولين الأمريكيين غير قادرين على إدراك أهمية هذا التحول وتأثيره الإيجابي على المصالح الوطنية الأمريكية، وهذا أمر مؤسف للغاية بالنظر إلى أن الحملة السعودية على التطرف ترافقت مع أحد أكثر برامج الإصلاح الداخلي طموحاً في العالم، بالإضافة إلى استعداد مستجد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتجاهل هذه التغيرات من شأنه أن يدفع السعوديين إلى أحضان أخطر أعداء واشنطن.

ربما تكون الإصلاحات السعودية تشكِّل أهم تحول في مجتمع مسلم منذ أن أسس الرئيس التركي الأسبق مصطفى كمال أتاتورك دولة حديثة علمانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولا شك أن حملة محمد بن سلمان الشاملة للإصلاح والتحرر تشكِّل واحدة من أهم نقاط الانعطاف الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين، وعلى الرغم من عيوب المملكة وأوجه القصور فيها، يبقى من المؤكد أن الولايات المتحدة لديها مصلحة في المشاركة والتأثير والمساهمة في عملية التغيير التاريخي بدلاً من نبذها، والتخلي عنها، لمصلحة دولٍ ليست صديقة للولايات المتحدة.

الرئيس الأمريكي كثيراً ما يذكِّر منتقديه بأنه لا ينبغي لهم مقارنته بالكمال، بل بالبديل المحتمل، وسيكون من المفيد لو أنه طبَّق نصيحته هذه على سياسته تجاه المملكة.

وفي المقابل يمكن -مع بعض الحظ، والمشاركة الأمريكية المستمرة- أن يبعث ما يجري في المملكة بقيادة محمد بن سلمان الأملَ فيما هو أفضل للجميع.

المصدر: فورين بوليسي

كيوبوست- ترجمات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *